الخميس 2022/11/17

آخر تحديث: 11:23 (بيروت)

وادي السيليكون: شاهد النصّابين واستمتع بالرأسمالية

الخميس 2022/11/17
وادي السيليكون: شاهد النصّابين واستمتع بالرأسمالية
إليزابيث هولمز كما تجسّدها آماندا سيفريد في لقطة من مسلسل The Dropout
increase حجم الخط decrease
إليزابيث هولمز تجلس على أريكة في بيت جارها الثري، محصورة بين شقيقها ووالديها. تخبرهم خريجة المدرسة الثانوية أنها تلقّت خطاب قبول من جامعة ستانفورد، بما في ذلك منحة رئاسية، لأنها واحدة من أفضل عشرة طلاب قُبلوا هناك. الجار، الذي بدا منزعجاً من ثقتها المفرطة بنفسها، يعاجلها: "منحة رئاسية، يبدو أنكِ تخططين لأن تكوني رئيسة". تجيب هولمز: "لا أريد أن أصبح رئيسة، أريد أن أصبح مليارديرة". 

يأتي هذا المشهد في الحلقة الأولى من المسلسل القصير The Dropout. ولو كان المسلسل خيالياً بحتاً، لبدا المشهد السابق مفتعلاً بعض الشيء. أي طالبة ثانوية تلك التي تعلن بثقة أنها تريد أن تصبح مليارديرة؟! أليس هذا نوعاً مبالغاً فيه من جنون العظمة، فيه الكثير من الطموح، ذاك الذي يضفيه المسلسل على شخصيته الرئيسية في الحلقة الأولى؟

لكن المفاجأة أن The Dropout قصة تستند إلى أحداث حقيقية، وبالتحديد حياة المتسرّبة من الجامعة، رائدة الأعمال، أصغر مليارديرة عصامية، المحتالة المُدانة إليزابيث هولمز. وهكذا فإن المشهد إياه على أريكة الجيران، غير الواقعي كما قد يبدو، يعتمد في الواقع على حكاية حقيقية.

نصّابون ومُخلّصون
عندما يتعلق الأمر بالشركات والمشاريع الناشئة، لطالما أحبّت صناعة السينما التركيز على قصص نجاح الشركات التكنولوجية والرقمية في وادي السيليكون، مثل صعود مارك زوكربيرغ في "الشبكة الاجتماعية" (2010، ديفيد فينشر)، أو، كما في العديد من الأفلام التي تسرد نجاح ستيف جوبز. أخيراً، يبدو أن مواد درامية جديدة اكتُشفت في الطرف الآخر من قصص تلك النجاحات السائدة والساطعة، واصبح الاهتمام الآن موجهاً صوب قصص فشل رواد الأعمال الطموحين.

الشركات الناشئة التي تفشل وتجذب المستثمرين إلى الهاوية، وعمليات الاحتيال الأخرى التي تبلغ قيمتها ملايين ومليارت الدولارات، هي الترند الكبير الحالي في إنتاج المسلسلات، بعد خفوت ترند العامين الماضيين والمتمثل في مسلسلات الجرائم الحقيقية. 

استناداً إلى بحوث واستقصاءات صحافية، تحاول ثلاث مسلسلات حديثة الكشف عن العطب الموجود في وادي السيليكون: The Dropout، عن رائدة الأعمال إليزابيث هولمز وشركتها ثيرانوس Theranos، التي كان من المفترض أن تحدث ثورة في تكنولوجيا فحوصات الدم عبر تبسيطها و"دمقرطتها".

WeCrashed حول مؤسس شركة مساحات العمل التشاركية وي ورك WeWork، آدم نيومان، الذي قدّم شركته لتأجير المكاتب باعتبارها شركة تكنولوجية وجمع مليارات الدولارات من المستثمرين بهذه الرؤية. وأخيراً Super Pumped، عن مؤسس شركة "أوبر ترافيس كالنيك"، الذي اضطر، منتصف العام 2017، إلى الاستقالة من منصب الرئيس التنفيذي بعد خروج عدد من كبار المديرين التنفيذيين من الشركة وسلسلة من الفضائح التي طاولتها، من التجسّس إلى الاعتداء الجنسي.

هذه قصص ثلاثة مؤسسين مختلفين تماماً، لثلاث شركات مختلفة، تقدّم أشكالاً متنوعة من الفشل. القاسم المشترك بين المسلسلات الثلاثة هو تسليطها الضوء على ثقافة وادي السيليكون. من خلال القيام بذلك، تعالج موضوعاً يخضع أيضاً لمزيد من التدقيق من قبل المجتمع: قوة روّاد الأعمال في مجال التكنولوجيا.

لفترة طويلة، كانت الأمور مختلفة، ويُنظر إلى المؤسسين من "كعبة" التكنولوجيا في الولايات المتحدة باعتبارهم مُخلّصين ورؤيويين بإمكانهم تحسين العالم وتسهيل الأمور وإحداث الثورات. أدّى البحث عن "غوغل" التالية، و"أمازون" التالية، وستيف جوبز القادم إلى العديد من المشكلات المترابطة في وادي السيليكون، يمكن اختصارها في جنون العظمة وأطماع الصعود والانبهار بالمظاهر وتصديق الأنبياء الكاذبين.


استثمر في المؤسس
المسلسلات الثلاثة واقعية جداً في إظهار ماهية تلك المشاكل. في WeCrashed، على سبيل المثال، هناك مشهد يُسأل فيه بروس دانليفي (أنتوني إدواردز)، أحد مستثمري "وي ورك" المتحمّسين، عن وجهة أموال المستثمرين في الشركة الناشئة؟ ففي النهاية، كما يقول مُجادِل دانليفي، محلّ العصير الذي ينفق على الليمون أكثر مما يجنيه من عصيره لن يحقق ربحاً، فكيف يختلف ذلك عن "وي ورك"؟ يجيب دانليفي: "آدم. آدم نيومان، المؤسّس، هو الفارق الرئيسي".

يصف المشهد شعاراً سائداً لدى مستثمري الشركات الناشئة حتى يومنا هذا: استثمرْ في المؤسّس/رائد الأعمال. طالما أنه يستطيع فعل شيء ما، كما تقول الأطروحة (أو الأسطورة؟)، فإن الشركة ستكون على ما يرام. بهذه الطريقة، يقدّم المستثمرون الكثير من المال من دون أن يضطر المؤسّسون إلى الوعد بالكثير في المقابل. طالما أن نمو المبيعات في اتجاهٍ صاعد، تُضخّ أموال جديدة دائماً. الخوف من ضياع فرصة، الخوف من الضياع عموماً، أكبر من القلق بشأن خسارة بضعة ملايين.

ونظراً لأنه غالباً ما يكون إحضار الأموال أسهل وأسرع من ابتكار الأفكار الرائعة، يمكن حتى للمؤسسين "المديوكر" من أصحاب الرؤى النيئة أو المتمتّعين بحسٍّ تسويقي جذّاب، أن يطلبوا الكثير من المستثمرين ويراكموا القوة والسلطة. 

نيومان في "وي ورك" أو كالانيك في "أوبر"، كلاهما كانا قادرين على إقناع مستثمريهما بمنحهما غالبية حقوق التصويت على شركتيهما، ما خلق اختلالات هيكيلية في أسلوب الإدارة. بعبارة أخرى، صنعا فقاعة استثمارية، عبر الاستفادة من مهارات الإقناع والتملّص والجنون، فزادت سلطتهما داخل الشركة أكبر مما ينبغي.

في حالة "وي ورك"، يكفي القول إنها في غضون أقل من 10 سنوات تحوّلت من مجرد شركة ناشئة تبحث عن مقرّ لها، إلى علامة تجارية عالمية تبلغ قيمتها 47 مليار دولار. ثم، في أقل من عامٍ، تراجعت قيمتها إلى أقل من خُمس هذا الرقم.


زيّفها حتى تحققها 
في Super Pumped، يسأل ترافيس كالانيك (جوزيف غوردون ليفيت) أحد المتقدمين لوظيفة في شركته، "هل أنت أحمق؟". كان هذا في بداية الحلقة الأولى، وفي نهايتها سيتضح نوع الإجابة التي يريد كالانيك سماعها.

يضبط المشهد نبرة المسلسل المسلّية، والذي يستعير عناصر سردية من المسلسل السياسي "بيت من ورق"، مثل التحدث مباشرة إلى الكاميرا، وشروحات وتوضيحات بأسلوب فيلم  "The Big Short"(2015، آدم مكاي): لا يمكنك أن تكون لطيفاً في "أوبر"، أنت مصدر إزعاج، مثير شغب، وعلى هذا النحو عليك أن تخرق القواعد. حتى إن عنى ذلك التجسس على موظفي الهيئات الحكومية أو المنافسين. 

يلعب ليفيت دور المدمن على العمل، المفرط في الطموح، المهووس بالسلطة، المفتقر إلى التعاطف، لدرجة لا تتطلّب الكثير من الخيال لرؤية تأثير مثل هذا الرئيس التنفيذي في ثقافة الشركة.

بالطبع، يطرح المستثمرون أحياناً أسئلة بدورهم. يمكن أن يودي ذلك بروّاد الأعمال إلى المبالغة في الوعود بما يمكنهم تقديمه بالفعل، سواء في الإيرادات أو المنتَج نفسه. لكن هناك كلمة سحرية في ثقافة وادي السيليكون لهذا أيضاً: زيّفها حتى تحققها (Fake It Till You Make It). وهنا يأتي دور ثيرانوس، شركة تحليل الدم الناشئة التي أسستها إليزابيث هولمز، النموذج الأوضح لهذه العبارة-الشعار.

لم تبالغ هولمز في تقدير مبيعات أو إمكانات جهاز ما من إنتاج شركتها؛ لا، بل تظاهرت بأنها طوَّرت أجهزة يمكنها إجراء مئات الفحوصات الطبية باستخدام قطرة دم واحدة. لكن هذه الأجهزة لم تعمل بشكل صحيح أبداً، كما أظهر بحث أجراه مراسل صحيفة "وول ستريت جورنال" آنذاك جون كاريو في العام 2015.

يحكي The Dropout القصة وراء هذا الاحتيال. في أحد المشاهد، تقف إليزابيث هولمز (التي لعبت دورها بشكل رائع أماندا سيفريد) مع زميلها في العمل إدموند كو (جيمس هيرويوكي لياو) في غرفة مليئة بمرضى السرطان؛ بغرض اختبار جهاز ثيرانوس عليهم.

تقول إحدى المريضات إنها تعرضت لوخز الإبر مرات عديدة لدرجة أنه لم يتبق لديها أي عروق على الإطلاق، ثم تضيف شاكرة: "أنتم يا رفاق تقومون بعمل جيد". 

يخرج كو، متأثراً بشكل واضح، تتبعه هولمز متسائلة عمّا به. يخبرها: "إليزابيث، إنه (الجهاز) لا يعمل بعد، إنه ليس قريباً حتى من تلك المرحلة". فتردّ رائدة الأعمال القادرة: "ليس من المفترض أن يعمل في هذه المرحلة، إنها مجرد تجربة"، مضيفة إن "الناس يعرفون جيداً ما الذي يشاركون فيه".

مشاهد مثل هذه هي مكمن قوة المسلسل، فهي توضح أن الأمر لا يتعلّق فقط بقليل من نمو المبيعات الذي لم يتحقق بعد، وإنما يتعلّق بأشخاص ومرضى يتيحون أنفسهم، من دون أدنى شكّ من جانبهم، من أجل تجربة بنموذج أولي لا يعمل بشكل صحيح حتى الآن. هذه التجربة ليست خيالاً أيضًا، بل حدثت كما تظهر في المسلسل.

من النافل، بما أننا، في منطقتنا العربية، وبالتحديد في مصر، اختبرنا في السنوات الأخيرة شيئاً مشابهاً وإن كان أكثر إضحاكاً وفُجراً، مع جهاز اللواء عبد العاطي لعلاج فيروسي التهاب الكبد الوبائي والإيدز؛ مع التذكير بأنه لا مجال للمقارنة بين السياقَين الأميركي والمصري.

الحقيقة إن حكاية هولمز ليست أقل من تراجيديا تليق بمسلسل حافل بالكوميديا السوداء، فهي غادرت جامعتها العريقة أسوة بمثلها الأعلى ستيف جوبز، ثم أسّست شركة متخصصة في اختبارات الدم، أدّعت أنها ستحدث ثورة في عالم تكنولوجيا الاختبارات المعملية. دخلت السوق ذات يوم بأعظم الوعود، وجمعت تمويلاً لشركتها الناشئة بما يصل لنحو مليار دولار، وقًدّرت تلك الشركة أحياناً بالمليارات، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً بسبب نقص الأجهزة العاملة (أو التي لم تعمل قطّ)، ومنذ ذلك الحين صارت اسماً دائم الحضور في المحاكم والنزاعات القضائية، وصولاً إلى إدانتها مطلع العام الجاري بأربع تهم، منها تضليل المستثمرين والمرضى بشأن دقة تكنولوجيا فحص الدم التي تعمل عليها.

على الرغم من محاولات هولمز، ومحاميها، تصوير نفسها كما لو كانت قد أغوتها ظروف خارجية، من قبل المستثمرين الماليين وشركات رأس المال الاستثماري، فإن المسلسل يُظهر العكس بشكل مُقنِع. إذ يلعب مع كل الكليشيهات المعتادة في هوليوود للعبقرية المُساء فهمها، ليسحب بعد ذلك الستار كاشفاً أن هولمز ليست فقط خرقاء، وإنما متذاكية، ولئيمة، ومربكة.

طيلة المسلسل نراها تواصل لعب ورقة تمكين النساء في عالمٍ يسيطر عليه الذكور. تقول إنه "يجب أن تتعلّم النساء تحقيق أنفسهن". وفي حين أن هذا صحيح، بالطبع، إلا أنه حقّ يُراد به باطل. تستخدم النسوية كسلاح خَطَابي ضد الإجحاف الحاصل بحق جنسها، لإعطاء نفسها أفضلية مجانية في بيع منتجها غير المضمون. والنتيجة؟ تفتح رطانتها ووعودها الفارغة أمامها الأبواب.

من السهل تصوير هولمز باعتبارها مُخطّطة شيطانية. لكن الفضل يعود إلى كل من كاتبة السيناريو إليزابيث ميريويذر، والممثلة أماندا سيفريد، في أن شيئاً من الغموض الواقعي اللطيف تم غرسه في الدور بدلاً من ذلك. مثل هولمز، تبدو سيفريد قاسية وضعيفة، متعاطفة وغير متأثرة، منخرطة ومهتمة، لكنها أيضاً منعزلة. يعتمد المسلسل نهجاً فنياً كلاسيكياً في عدم إدانة رائدة الأعمال أو تبرئتها، تاركاً مثل هذه الأحكام للمُشاهد.


هل يستحقون مصيرهم؟
مثلما تتجه الأفلام المستمدة من سِيَر ستيف جوبز ومارك زوكربيرغ، صوب نجاح نجومها، تتجه قصص هولمز ونيومان وكالانيك حتماً نحو فشل أبطالها. لكن المسلسلات الثلاثة لا تشير إلى أن مسارات روّاد الأعمال الثلاثة مشابهة لتلك التي سلكها أشخاص مثل زوكربيرغ أو جيف بيزوس أو حتى إيلون ماسك. لقد آمنوا أيضاً بفكرة، ودفعوا بها ضد التيار، وجعلوا الآخرين متحمّسين لها ووجدوا مستثمرين يخاطرون من أجلها.

في النهاية، ما يميّز قصص المؤسسين الناجحين وغير الناجحين هو من أي نقطة ننظر إليهم. في بعض الأحيان، هناك بضع سنوات فقط تفصل بين الإعجاب والازدراء. من المؤكد أن فيلماً عن زوكربيرغ اليوم سيقول كلاماً مختلفاً عما كان عليه الأمر في "الشبكة الاجتماعية" قبل 12 عاماً.

ساعدت قصص النجاح هذه في تأجيج عبادة مؤسسي التكنولوجيا، مما مهّد الطريق لأشخاص مثل هولمز وكالانيك ونيومان للسلوك والتصرف مثلما فعلوا: لأن المؤسسين أو روّاد الأعمال كانوا، وما زالوا في الغالب، يُعتبرون أبطالاً. قبل سقوطها، لم يكن هناك ما يمنع هولمز من ملء مجلس إدارة شركتها بالصقور (بما في ذلك الثعلب العتيد هنري كيسنجر) أو تلقّى إشادة عامة من جو بايدن نفسه. وقبل أن يُجبر نيومان على الاستقالة، خطّط لتعيش شركته إلى الأبد، وفتح فرعاً لها في المريخ ليصبح "رئيس العالم".

بالمناسبة، على عكس هولمز، لم يكن على آدم نيومان وترافيس كالانيك دفع ثمن أخطائهما. فهما ما زالا يعيشان بحُرية ويكسبان عيشهما في النهاية. حصل نيومان على مئات الملايين من الدولارات كهدية فراق عندما غادر "وي ورك". وبحسب ما نُشر، جنى ترافيس كالانيك 2.5 مليار دولار من قيمة بيع أسهمه في "أوبر" عندما غادرها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها