البداية من رحيل ملك الروك أند رول
بدأ مشوار سلوى جراح في إذاعة "بي بي سي" العربية العام 1977. وكفلسطينية نشأت في العراق، كانت بمجيئها إلى بريطانيا، تتعرف إلى ثقافة جديدة. وفي عمر الثلاثين، كانت تدرك أن لديها الكثير لتتعلمه هنا. وبعد أيام على وصولها بريطانيا، مات "ملك الروك آند رول" إلفيس بريسلي، فصرخ شبان بريطانيا: "The king is dead". وبحسها النقدي، علقت شاكية لأولغا جويدة، التي ستعتبرها أستاذتها الإذاعية لاحقاً: "يتهموننا نحن الشرقيين بأننا عاطفيون. لسنا وحدنا كذلك". وكان هذا التعليق كافياً ليحدد أول اختبار إذاعي لسلوى جراح في لندن، ما غيّر مجرى حياتها للأبد.
تقول جراح: "طلبت أولغا جويدة مني أن أكتب قطعة خبرية عن وفاة بريسلي. طارت بها من شدة إعجابها، وقرأتها في برنامجها "نصف ساعة مع أولغا جويدة"، ليبدأ منذ ذلك الوقت مشواري في بي بي سي بوتيرة سريعة وتصاعدية".
والحال أن مواهب جراح في الكتابة والإعداد والإلقاء والإخراج، لم تكن خافية على أحد، وبدأت الزوجة والأم مشوار 22 عاماً من مسيرة إعداد البرامج الإذاعية، فجالت البلاد تجمع أحاديث ومعلومات صحافية، يوم كان الوصول للمعلومة يحتاج بحثاً مضنياً، وغوصاً لساعات في الكتب، ولم تكن متاحة بكبسة زر على كومبيوتر مثلما هو الحال اليوم.
لكل سؤال جواب
وكانت البرامج الثقافية التي تقدمها "بي بي سي" مكتنزة وغنية تجيب على متطلبات شعوب عربية متعطشة للثقافة وفي جعبتها أسئلة تحتاج مَن يعطيها قيمتها، وهذا تماماً ما أجادته جراح. ومع تقديمها برنامج "لكل سؤال جواب"، لم تسلم من تعليقات زملائها، لعملها في "برنامج بهذه الضخامة" رغم أنها حديثة العهد في الإذاعة.
وأبت المذيعة الشابة إلا أن تضع بصمتها الخاصة، فكانت مبتكرة وجريئة في طرح مقاربتها، وأضافت بُعداً جمالياً على أسئلة المستمعين. فإذا سأل أحدهم عن المتنبي، أرفقت السؤال ببيت شعري له، ما جعل الرسائل تتدفق للبرنامج بشكل قياسي.
العالم بات ضنيناً
وجراح، السبعينية اليوم، ترى أن جيلها الإذاعي بدأ يندثر: "أبناء جيلي تعلموا كيف ينتجون برنامجاً مسجلاً من نصف ساعة، كتابة وإعداداً ومَنتَجة، وخَبِرنا تقديم برنامج على الهواء لمدة ساعتين من دون كلل، كالبرنامج المفتوح. لكنني لا أنكر أننا كنا محظوظين ونعشق ما نفعل، فالعالم كان معطاء، بينما بات العالم اليوم ضنينا جداً، وتلاشت قيمة كل شيء".
ويحزن كثيرون اليوم على إغلاق إذاعة "بي بي سي" العربية، أما جراح فتبدو أكثر تماسكاً، وبرأيها أن حقبة من عمر هذه الإذاعة انتهت منذ أن تم نقلها من مبنى "بوش هاوس"، لكنها لا تربط التغير بمكان العمل بل بأصحابه. وتكمل: "أحترم جيل اليوم وأشجعه فهو جيل المستقبل، لكن المذيعين الشباب لا يشبهوننا في مقاربتهم للعمل الإذاعي، فتغلب الفواصل الموسيقية على المحتوى الذي يقدمونه، وهم حولوا الخبر إلى وجبة سريعة على قاعدة: أعطِني من الآخِر. أما جيلنا، فكان يؤمن بأنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، وكان يجهد للوصول إليها وإيصالها للمستمعين. وقلة قليلة تفعل ذلك اليوم".
"بي بي سي" لم تجذب الشباب
وربطت "بي بي سي" إغلاق القسم العربي بـ"مواكبة التطور"، لكن جراح ترى أن محاولة الإدارة مواكبة التكنولوجيا هي ما أوصلتها إلى هنا. برأيها، لم تكن الإدارة مقتنعة 100% بالسعي إلى جذب الشباب، وظنت بأن التكنولوجيا وحدها تفي بالغرض، فلم تقم بجهد إضافي لمواكبة الزمن، و"غالبية الشباب كانوا يستمعون الينا في أوقاتهم المشتركة مع آبائهم، وليس بخيار فردي منهم. حتى أنني يوم أشرفتُ، في تسعينيات القرن الماضي، على برنامج ذي طابع شبابي، صُدمتُ بأن إدارة بي بي سي العربية كانت أول من حاربه".
نجوم الفن والأدب
مع كل النجاحات التي حققتها برامجها، بقي تقدير أعمالها من قبل مستمعيها هاجساً كبيراً لدى جراح. وتستذكر تعبير سائق سيارة أجرة في الأردن عن تقديره لبرامجها في إحدى المرات، وكانت تلك اللحظات تشعرها بأن "جهدنا الذي نبذله يصنع فارقاً". وباللكنة المصرية تردد العبارة كما سمعتها من صاحبها: "أنا من جمهورِك"، في إشارة الى الصحافي المصري أحمد بهاء الدين، مضيفة: "هؤلاء كانوا مستمعو بي بي سي في تلك الحقبة".
غير أن رهبة "بي بي سي" وعظَمتها وعراقة ما تقدمه، لم تكن تؤثر في المستمعين وحدهم، بل كذلك في ضيوف الإذاعة. فكانت فرحتهم باستضافتهم فيها "عظيمة"، من برنامج "الواحة" الذي استضافت فيه جراح شخصيات المعروفة من نجوم الأدب والفن، كالشاعر نزار قباني والمخرج يوسف شاهين والكاتب يحيى حقي والفنانة صباح والممثلة نضال أشقر، الى برنامج "موزاييك" الذي استضاف الكاتب نجيب محفوظ وغيره من أبرز نجوم الأدب.
تقاعدت جراح بعد 22 عاماً، تزامناً مع إغلاق وحدة البرامج والموسيقى في الإذاعة. ولم تستأنف عملها الإعلامي، "فلست راضية عن كثير مما يحصل في الإعلام اليوم لناحية الاستهانة بما يقدم للجمهور".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها