الثلاثاء 2022/10/25

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

حكاية الفتاة يا حرام

الثلاثاء 2022/10/25
حكاية الفتاة يا حرام
لوحة: ريتا كيرن لارسن
increase حجم الخط decrease
أخاف المرايا، أخاف أن أنظر يومًا إلى مرآة غريبة من دون قصد فألتقي فيها إنسانة غير مألوفة لي ملامحها، ولأظلّ حيالها متحيّرة حتى أدرك أن مَن أراها هي أنا حقيقةً وليست أخرى غيري. وأقول لنفسي: إذن هذه هي الغريبة التي يراها الناس عندما يرونني، ومَن يدري؟! لعلّها ليست بالغريبة، وأنا التي كنت أضعف من أن أواجه نفسي طيلة هذا الوقت، مثلما هِبتُ دائمًا سؤال غيري: كيف تراني؟!.. هذا السؤال البريء الذي لم أستطع يومًا طرحه على أحد، رغم فضولي لمعرفة بما سيجيب. لأني أخاف. وأخاف كذلك أن يقول لي أحدٌ: فلنتكلم في شأن يخصك، من حيث يعني هذا أن ثمة أمراً يخصّني ويعرفه الجميع، ما عداي.

ومثلما تنتشر شائعة في قرية صغيرة فتعمّ كل بيت وركن، أصبحت أعرف من ثرثرات الناس وحكاياتهم من حولي، الكثير عن تلك الفتاة الغريبة التي انطبعت صورتها في مرآتي. وعرفتُ أن تلك الغريبة تحب أن تجلس وحدها، وتمشي وحدها، وتأكل وحدها، وتقرأ وحدها، وتتسلّى بصحبة نفسها. وعرفتُ أنهم يطلقون عليها إسماً ثانياً لم تسمّني به أمي. كانوا يسمّون الغريبة: "يا حرام!".

أضحك. أأنا تلك الغريبة التي يرون؟! يا للهزل! كيف، وأنا في إحدى أكثر لحظاتي انسجاماً مع ذاتي ومع الكون، وإحدى أكثر لحظات امتلاء قلبي بالرضا والسرور والاكتفاء، يراني غيري فيها مثيرة للشفقة وناقصة وعاجزة عن نيل قبول الآخرين وحبهم؟ لم أفهم قط، كيف يكون المرء، في الوقت ذاته، هانئاً في مرآة وبائساً في أخرى؟!

توقّف أمامي قِطٌّ حنون وجعل يتمسّح بساقيّ، فانحنيت أفرك ظهره بأطراف أصابعي وأنا افكر أن ثمه مئة احتمال واحتمال في إيثارنا للوحدة بعيداً من الخَلق. فربما لم نعتَد، نحن مؤثِري الوحدة، على صحبة الآخرين في الأوقات كافة، أو ربما نحبّ أن نتصرف في أمورنا وفق مزاجنا الفريد، فنجلس ونقوم ونمشي ونركض ونتكلم ونستمع للموسيقى، من دون أن نحمل الآخرين على مواكبتنا. وربما لأننا نشعر بالملل في صحبة الآخرين، لأننا لم نجد بعدُ بديلاً من خصوبة أحاديثنا مع أنفسنا. وربما لأننا مختلفون فحسب. لماذا علينا أن نبرّر ذلك لأحد؟ لماذا علينا أن نداري عزلتنا فننزوي بها بين زوايا غرفتنا؟ فليرَها الآخرون أينما كنّا! وليتهم يدركون أن لهم وقتهم مثلما لنا وقتنا، وأن عالمنا معاً يتسع لهذا وذاك.

وأنصرف القطّ الحنون مبتعدًا بعدما ترك رائحته المميزة على ساقيّ، وأعلنني صديقة له أمام معشر قومه، وانصرفت أنا بعده إلى نفسي متسائلة عن عدد المرات التي بدَونا فيها للآخرين من قبيلة "يا حرام!"، في مقابل عدد المرّات التي بدا لنا فيها الآخرون مُنتمين إلى تلك القبيلة، وهي الأدعى للتعاطف لعدم امتلاكهم الجرأة على السباحة وحدهم في نفوسهم، مثلما نفعل، واختيارهم دوناً عن ذلك إغراق أنفسهم في زحام الناس وأضوائهم البرّاقة. ولعلّ كلانا مخطئ في نظرته إلى الآخر. فلربما نحن غارقون في الخيالات والأوهام، فيما هم غاطسون في العمق من قدراتهم. تُرى مَن يظلِم مَن؟!

أعرف فقط أنني أخاف مواجهة المرايا. أخاف أن أجد نفسي واقفة على حدود العالمين، أنظر إلى هذا الجانب نظرة، وإلى ذاك الجانب نظرة، ثم لا أعود أعرف في أيّ جهة كنت أقف!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها