السبت 2022/10/22

آخر تحديث: 19:03 (بيروت)

النقاش حول فلسطين وأولويات السوريين.. يؤجج التخوين

السبت 2022/10/22
النقاش حول فلسطين وأولويات السوريين.. يؤجج التخوين
مسؤول العلاقات العربية في "حماس" خليل الحية، وأمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين طلال ناجي، خلال مؤتمر صحافي بدمشق (غيتي)
increase حجم الخط decrease
في سوريا الأسد، المُمانِعة، يكفي بوست واحد في "فايسبوك" حول القضية الفلسطينية، لاستنفار أجهزة الإعلام الرسمية والأدوات الدعائية الأسدية من أجل تقديم ضخ مضاد، لا يروج فقط للدعاية التقليدية المنطلقة من فكرة عداء العالم لنظام الأسد بسبب موقفه الداعم للفلسطينيين، بل يخوّن أيضاً من يعتقد أن تفاصيل حياته اليومية في سوريا، على كافة المستويات الشخصية والعامة، أهم مما يجري في بلد آخر.

وشنت حسابات لمُوالي النظام السوري هجوماً على الدكتور أمجد بدران، الذي وصفه الموالون عموماً في السنوات الأخيرة بأنه أحد جرحى جيش النظام ويعاني ظُلم السلطة بسبب نشاطه في مواقع التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى اعتقاله العام 2019 على خلفية انتقادات وجهها للهيئة العامة للبحوث العلمية حينها. علماً أنه ضابط سابق في جيش النظام السوري، أصيب خلال خدمته الاحتياطية قبل أن يُعفى نتيجة إصاباته المتتالية. واشتهر بدران في الساحل السوري تحديداً بانتقاداته ومنشوراته التي يتحدث فيها عن الوضع العام في البلاد وتردي الأوضاع المعيشية والخدمية.

ويعود سبب الهجوم على بدران، الى انتقاده لقاء الرئيس السوري بشار الأسد، مع وفد من حركة "حماس" الفلسطينية، أولاً، والتركيز الإعلامي السوري على المناضل الفلسطيني عدي التميمي، في مقابل التعتيم الإعلامي على الحياة اليومية في سوريا ثانياً.

وأدت التبليغات الكثيرة إلى حذف منشورات لبدران من "فايسبوك" لينشرها مجدداً، في مقابل تحريض شخصيات تعمل في الإعلام السوري ووزارة الإعلام وجهات رسمية، عليه، بنشر اسمه باعتباره خائناً.



والجدل، رغم أنه منحصر بين الموالين للنظام، إلا أنه يبقى شديد الأهمية، لأن النظام السوري منذ عقود طويلة وضع القضية الفلسطينية قسراً في مقدمة القضايا التي يدعي الاهتمام بها، وامتلأت المدارس والشوارع والإعلام الرسمي وشبه الرسمي بالمحتوى الذي يعتبر القضية الفلسطينية أولوية بالنسبة للنظام. ودفع السوريون الضرائب والطوابع لأجل القضية التي يدعي النظام مساندتها، وسمعوا مراراً عبارات من المسؤولين الرسميين بأن الجزء الأكبر من ميزانية البلاد تذهب إلى الجيش ووزارة الدفاع بسبب دعم دمشق للقضية الفلسطينية. ويشعر بعض السوريين أنهم مواطنون أقل قيمة في بلدهم، رغم أن ذلك لا علاقة له بالقضية الفلسطينية مباشرة، بقدر ما هو نتيجة للحياة في ظل نظام شمولي. 

وحتى اليوم مازال الحدث الفلسطيني دائم الحضور في الشاشات الرسمية بشكل يفوق حضور الحدث السوري نفسه، لأغراض دعائية لا علاقة لها بدعم حقيقي. وحتى عندما كانت الحرب مشتعلة في سوريا، خُصّص بث مباشر في قنوات النظام للحديث عما يجري في فلسطين، كإجراء مُفتعل، مقابل التعتيم على ما يجري في سوريا.. بما في ذلك الحرب الضارية على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين العام 2012.

وشكلت المواجهات المتكررة بين قوات الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين، وأحداث مثل موقف الإدارة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب من القدس واتفاقيات السلام بين تل أبيب وعواصم عربية، إضافات انتعشت عليها الدعاية الأسدية، التي تصور الأسد شخصياً كعنصر في محور المقاومة، ما يجعل استهدافه طوال العقد الماضي من قبل "المؤامرة الكونية" جزءاً من "المخطط الصهيوني الأوسع المرسوم للمنطقة". وذلك كله بالطبع أسلوب كلاسيكي في الدعاية الأسدية/البعثية التي لطالما استغلت القضية الفلسطينية لتحصيل الشرعية السياسية محلياً وإقليمياً.

النقاش الموالي ليس جديداً، بل تكرر طوال العقد الماضي. حتى مسألة الصلح مع "حماس"، وغيرها من الفصائل التي وقفت ضد النظام السوري في إحدى فترات الثورة السورية، كان حاضراً في الخطاب الدبلوماسي والإعلامي للنظام، حيث كتبت المقالات المنتقدة، وتحدثت أبرز شخصيات النظام، مثل المستشارة الرئاسية بثينة شعبان، عن ذلك مراراً وتكراراً. لكن انتقال ذلك للمواطنين العاديين، يعتبر خطاً أحمر، لأن "القيادة الحكيمة" هي من يمتلك حصرية التمييز بين "المؤامرة" و"المصلحة الوطنية"، والتعدي على هذه الحصرية هو الخيانة بحد ذاتها، وفق المنطق الرسمي.

والحال أن خطاب النظام الأساسي يقوم على فكرة القومية العربية، لا السورية المحلية، مع الترويج لخطاب الممانعة عموماً. ورغم الترويج لفكرة الوطن السوري والانسلاخ عن المحيط العربي في سنوات الثورة الأولى، إلا أن ذلك بقي محدوداً، وإن ساهم في خلق إحساس شديد المحلية لدى بعض الموالين للنظام من منطلق بقائهم في الداخل السوري وإحساسهم بوجود حرب كونية ضدهم. وبات هذا الرأي الذي صنعه النظام بيديه، جريمة يعاقب عليها اليوم من باب "وهن نفسية الأمة" و"إضعاف الشعور القومي".



وتعمل الدعاية الأسدية هنا بأثر رجعي. فإذا كان أي سوري ينتقد الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي تسبب بها النظام خلال السنوات الماضية، ما دفع بـ90% من سكان البلاد إلى تحت خطر الفقر، يصبح ذلك الانتقاد جزءاً من مخطط خارجي مرسوم بعناية، وهي اتهامات واجهها بدران الذي لا يمكن وصفه بالمعارض بقدر ما يؤكد مراراً وتكراراً على تأييده لـ"الدولة السورية" في وجه الإرهاب.

والحال إن المعارضين لا يبتعدون كثيراً عن الجو السابق، ما يشير إلى أن السوريين شعبياً ما زالوا يتعاطفون مع القضية الفلسطينية وينظرون إلى سوريا الأسد وإسرائيل كوجهين لعملة واحدة، بوصفهما نظامين سياسيين يقومان على العنصرية ويمارسان جرائم ضد الإنسانية بطرق مختلفة. غير أن سوريا، من ناحية الخطاب الدبلوماسي والإعلامي، تشهد باستمرار تجاذباً حول فكرة مَن يمثل المقاومة الحقيقية ضد إسرائيل، بين الموالين والمعارضين، وتصبح تهمة العمالة لإسرائيل واحدة لدى الطرفين.

فالموالون يتهمون المعارضين بتنفيذ مخطط صهيوني في البلاد. أما المعارضون فيتهمون النظام بالتواطؤ مع إسرائيل والتقارب معها في السر مقابل التصريحات العلنية التي تدعي الممانعة والمقاومة.



والنظام، الذي خاض مفاوضات غير مباشرة مع الاسرائيليين بوساطة أميركية في العامين 1993 و1999، وفق معادلة "الأرض مقابل السلام"، يقصي السوريين بالكامل عن أي نقاش مرتبط بالقضية الفلسطينية، ولا يفكر في استفتاء حول أي تعديل في الموقف. 

في الحالتين، سواء بالمفاوضات أو بالعداء (وهو أمر يلقى شبه اجماع لدى السوريين)، يحتكر النظام المسارات، ولا يفتح باب النقاش مع النخب السورية، أو ممثلي الأحزاب المعارضة، حتى تلك الموجودة في دمشق. يستثمر حتى النفس الأخير في القضية الفلسطينية، ويروج إعلامياً لحصرية الدفاع عن القضية بنفسه، بهدف النفاذ من أي إدانة متصلة بدعوات لتغيير أحوال السوريين وإصلاح حياتهم وحوكمة الإدارة المحكومة بالمحاصصة وتوزيع الامتيازات على المقربين والشبيحة.

النظام بهذا المعنى، استحوذ على ذلك الحق منذ سيطرته على السلطة. فهمّش الأفراد وآراءهم وحقوقهم في امتلاك كلمة بشأن بلدهم، وهو الفارق الأساسي بين الديموقراطيات والديكتاتوريات، حيث تعلو السلطة فوق الأفراد والحريات وتقمعهم وتمنع أي نقاش قد يقود إلى التقدم بدلاً من المراوحة في المكان أو التراجع إلى الخلف. وهو ما يحصل في سوريا الأسد، منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث يتعاظم العنف والقمع يوماً بعد يوم، ويختفي كل ما له علاقة بالحضارة الإنسانية بشكل مخيف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها