الخميس 2022/10/20

آخر تحديث: 14:26 (بيروت)

طفلة مذعورة في مقصورة اعتراف

الخميس 2022/10/20
طفلة مذعورة في مقصورة اعتراف
increase حجم الخط decrease
عبق البخور ينذر بأن التحضيرات للقدّاس قد بدأت. أدخل الكنيسة بشيء من القلق. والحذر. والريبة. أقف، من علوّ سنواتي العشر، أمام باب خشبي مزخرف، يقع على يمين المدخل. أحاول أن اشغل نفسي بالزخرفات، لعلها تخفف تسارع نبضات قلبي. أنتظر. أرى من فتحات صغيرة في الباب، طيف. وأسمع تمتمات وهمهمات.

أرتجف. أنظر إلى يدي التي تسارع إلى ضمّ يدي الأخرى. ماذا أفعل هنا؟ وبماذا سأعترف في هذه المقصورة المغلقة على كاهن و"خاطئ"؟ أريد أن أعترف. لقد اقتنعت بأنه فرض من الفروض التي تدخلني عالَم الصالحين المتشابهين. عالم الكبار الواثقين جداً بأن الخلاص سيمرّ هنا. من هنا. من وراء هذا الباب المزخرف، حيث الطّيف والهمهمات.

ما الإثم الذي ارتكبته؟ أنا خاطئة حكماً. ومسبقاً. وعلى الأرجح، من دون أن أدري. لكن، عليّ أن أقول شيئاً. أي شيء. أي فعل يمكنه أن يرقى إلى خطيئة مميتة.

أبحث في ذهني الصغير، الذي راح ينشغل بتعداد ما قمتُ به طيلة الأسبوع. هل كذبتُ على أحد؟ هل ضربتُ أحداً؟ أعتقد بأن هناك مَن ضربني. أيمكن أن يقع الإثم عليّ إن ضربني أحد؟ سأسأل الطيف وراء الباب. ماذا لو غضب لأني لا أجيد التمييز الإثم من عدمه؟

أرتجف مجدداً. الوقت لم يعد في مصلحتي.
ثم وجدتُها. أخيراً وجدتها، خطيئتي الكبيرة. في تلك اللحظة، انتابني شعور بالراحة. بالاطمئنان. لأني وجدت ما ساعترف به للطَّيف. لقد سرقتُ طبشورة ملوّنة من اللوح. أحب الألوان. أحب الطبشور الذي ينساب على اللوح أشكالاً تشبه أحلامي.
سرقتها لكي أكتب بها على حائط الملعب. أريد أن أكتب اسمي، وأرسم فراشة صغيرة.
سأخبر الطَّيف. وسيحررني من ذلك الخطأ الذي ينجم عنه إسم وفراشة على حائط مدرسة.

دخلتُ. ركعتُ. طلب مني أن أخبره بما يثقل قلبي، لكي أنال السعادة الأبدية. أخبرته بالطبشورة، وبأني أردتُ كتابة اسمي ورسم فراشة. طلب مني أن أتلو فعل الندامة، وأن أصلّي كي يغفر لي الرب. اعتقدتُ حينها أن الله لا يحب الأسماء. ولا الفراشات. ولا حتى الألوان. أن الله لا لون له. أو ربما هو مزخرف ويشبه الطَّيف، يختبىء خلف الأبواب، ويطلب من الأطفال الصغار أن يتوقفوا عن الرسم، والحلم.

خرجتُ. وحين وطأت قدماي ساحة الكنيسة، شعرتُ بالعار. شعرت بأني سُلِبت ملابسي. وبأن أعضائي تُقدَّم للملأ، لكل مارّ ولكل طفل ولكل شجرة.

أذكر أني ركضتُ. ركضتُ بحثاً عن مكان أختبىء فيه. لا يمكن لأحد أن يرى عُريّي. لا أذكر كم من الوقت رحت أركض. لكني أذكر أني كنت أبكي. أبكي لأني عارية، عارية من طبشورتي. عارية من عمري. عارية من أحلامي.

لم أخبر أحداً بالأمر. لم أستطع أن أضع كلمات مناسبة على خجلي. خجلي لا يوصف. لا يُفهم. لا يتسع في جُملة. لقد خجلت، ليس لأني سرقت طبشورة، بل لأني كنت على دراية كاملة بأني لم أرتكب إثماً يستأهل وصفي بالخاطئة. خجلت، لأني كرهتُ الطَّيف الذي كان قاسياً جداً معي. لأني لن أتمكن من كتابة اسمي على الحائط.

تلك اللحظة كانت مصيرية بالنسبة إليّ. لقد فهمت معنى الظلم. لقد ظُلمت، لأني لم أعد طفلة. أصبحت من الخَطَأة الذين سيدخلون النار. الطبشورة ستدخلني النار. لكني، إن اعترفت، واقتنعت بخطئي، يمكنني أن أجد الخلاص.. لكني لن أحظى بالخلاص لأني لم أصدق بأني أخطأت! اعترفتُ بفعل السرقة لأني لم أجد شيئاً آخر أقوله. لم أستطع حتى أن أخبره بأن هناك من يلمس فخذي كل يوم، وبأني أعتقد أنه هو الخاطىء، وليس أنا. أو ربما أنا، ولذلك لم أفصح للطَّيف عن الأمر؟

ثلاثون عاماً مرّت على القصة. ومنذ ثلاثين عاماً، وأنا لا أعترف. بأي شيء، ولأي أحد.
ليس لدي ما أقوله، ولا أعتقد أن عليّ أن أتعرى مجدداً.

أنا أبوح. أبوح بمشاعري التي تخرج فيضاً، لدرجة أن بعض معارفي يضايقهم هذا السَّيل.
لكني لا أعترف. لستُ بحاجة للمغفرة. أكلم نفسي. أخبرها، فترُدّ. تخبرني إن اعتقدَت هي، وهي فقط، أني أخطأتُ في مكان ما. إن أحببتُ من لا يستحق الحب، أو مارستُ ما كان يمكن تفاديه. ونضحك معاً.

اكتشف والدي يوماً أني على علاقة بشابّ. انهال عليّ بالشتائم. طلب مني أن أعترف بأني على علاقة بهذا الشاب، وبأن عليّ أن أتوقف عن ملاقاته. لم أجد ما أقوله. صمتي كان مدوّياً. "اعترفي، وينتهي الأمر".

أي أمر يا أبي. أي أمر يا أبتي؟ ما شأن الكون، وما شأنك، إن اعترفتُ أو لم أعترف؟ الكون لا يأبه بي. سيدور. وستمطر. وسنموت. وسآخذ قصصي معي. أنا التي لم تستطع أن ترسم فراشة على حائط. سآخذ أخطائي معي، ولن أعطيها لأحد.

أخطائي، ككياني، أملكها وأفعل بها ما شئتُ. أحياناً، آكل نصفها، مع صحن التبولة. وأضحك. أضحك لأني أحبّ أخطائي، مع حامض زيادة!
ملاحظة: أكتبُ إسمي اليوم على كل ورقة تقع تحت يدي!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب