الأربعاء 2022/10/19

آخر تحديث: 16:06 (بيروت)

"سحر غرقت بالبحر": الأكراد والعرب والفن "الراقي"...وعلي الديك!

الأربعاء 2022/10/19
"سحر غرقت بالبحر": الأكراد والعرب والفن "الراقي"...وعلي الديك!
increase حجم الخط decrease
"سحر غرقت بالبحر.. أبو سحر انتحر" هو مطلع أغنية تحصد ملايين المشاهدات في مواقع التواصل الاجتماعي، تحديداً "تيك توك"، بسبب محاكاتها لواقع الحياة السورية المعاصرة بأسلوب لا يخلو من طرافة رغم أن الموضوع الذي تعالجه قاسٍ وحقيقي ومؤلم، بسبب كل ما حصل في سوريا من موت وتشرد إثر عنف نظام الأسد وحلفائه في قمع ثورة الشعب السوري العام 2011.

الأغنية للفنان السوري الكردي المقيم في ألمانيا، عماد كاكيلو، وهي جزء من مجموعة أوسع من الأغنيات تحقق مشاهدات عالية في "تيك توك" حول مواضيع مثل الغربة والاشتياق للوطن والتحسر على حال السوريين والحزن على ما آلت إليه أحوالهم، إذ أفضت الثورة السورية التي انقلبت حرباً طاحنة، إلى مقتل نحو نصف مليون شخص وتشريد نصف سكان البلاد البالغ عددهم 24 مليوناً، بين نزوح داخلي ولجوء خارجي، حيث يعانون التمييز والمضايقات وتحديات الحياة في المخيمات البدائية، خصوصاً في دول الجوار مثل لبنان وتركيا والأردن.



وبسبب طبيعة الأغنية الكوميدية، من المفهوم أنها ستحظى بسخرية البعض على اعتبارها "ترقص على جراح السوريين" أو بسبب طبيعتها المباشرة، لكن تلك الانتقادات قاصرة خصوصاً أنها لا تطاول الأغنيات الأكثر جدية التي تتناول الموضوع نفسه ويؤديها فنانون "مثقفون" بشكل "ترنيمات" أو ترتيلات وصلوات، أو بشكل يحمل رمزيات ثقافية وسياسية، كما كان الحال مع أغنيات "بياعة الزنبق" العام 2013 أو "سكروا الشبابيك" العام 2017.

على أن تلك المقاربات نفسها تحيل إلى مقارنة "الفن الشعبي" بالغناء "الراقي" الذي يقدمه نجوم مشهورون أو فنانون أكاديميون من نخب المثقفين، ليس فقط ضمن سياق الأغنية الحالية بل ضمن سياق أكثر شمولية.

مَن الذي يحدد ما هو الفن الجيد.. والفن الرديء؟ وهل يجب أن يكون هناك تقييم أصلاً طالما أن المحتوى ليس مسيئاً لأحد بحد ذاته؟ وهل يجب الحكم على الأغنية الحالية بأنها سلبية وسيئة ورديئة لمجرد أنها تأتي ضمن قالب شعبي يشهد انتعاشاً في أنحاء الشرق الأوسط، وليس فقط في سوريا؟ أم أن كلماتها كانت لتكون عبقرية لو تم تلحينها وتوزيعها كأغنية "جاز" أو "روك" أو حتى "بوب" معاصرة؟ وهل تختلف سحر ولطيفة وعدنان وغيرهم ممن تذكر الأغنية أسماءهم، عن شادي الذي أضاعته فيروز إبان الحرب الأهلية في لبنان؟

من جهة أخرى، تبدو الأغنية كأنها آتية من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بكلماتها ولحنها وآلة البزق التي يحملها كاكيلو في الفيديو البدائي، لدرجة تبدو معها الأغنية في المجمل وكأنها لا ترقى لمعايير الجودة المتوقعة من أغنية ناجحة. على أن نجاحها ونجاح أغنيات شعبية مماثلة، سواء كانت عاطفية أم وطنية واجتماعية، في سوريا والعراق ومصر حيث أغاني المهرجانات تحدث هزة في سيستم الغناء التقليدي، يحيل إلى أن هذه الأغنيات تلامس آلاف وملايين المتابعين لأنها تتحدث بلغتهم، ومقاربتها بفوقية ثقافية من قبل الصحافيين والنقاد وفئات أخرى من الجمهور بوصفها "تفاهات" يحمل عنصرية مبطنة ضد فئات كبيرة من البسطاء الذين يستمعون إلى تلك الأغاني ويستمتعون بها منذ عقود.

@mahir_avsar ضحكوا علينا العالم#ضحكواعليناالعالم #سحر_غرقت_بالبحر #سوريا #mahiravsar #عائلةاوشار #explor #foryoupage #fy @Mahir Avşarrr ♬ الصوت الأصلي - Mahir Avşarrr

بالطبع كان بإمكان كاكيلو الذي يغني منذ عشرين عاماً أن يكون اسمأ لامعاً ومشهوراً، لكن شهرته محدودة، وربما لم يكن ليعرفه أحد لولا كلمات الأغنية الحالية التي تنتشر كالنار في الهشيم، ويرتبط ذلك بعقود من تهميش الأكراد السوريين من قبل النظام السوري الذي رفع شعارات العروبة منذ ستينيات القرن الماضي، وحرم الأكراد من الجنسية والدخول إلى المدارس والحديث بلغتهم وغيرها من تفاصيل مروعة ترقى إلى التمييز العنصري. وكان بإمكان كاكيلو، وغيره من الفنانين الشعبيين، لو توافرت له الإمكانات والدعم في بيئة فنية صحية، أن يطور نفسه على صعيد الشكل والصوت والموسيقى نفسها. لكنه يخاطب جمهوراً يماثله ربما، من ناحية التهميش، ليس فقط من الأكراد، بل من منطقة شمال شرقي سوريا عموماً حيث يشهد الفن الشعبي رواجاً بأسماء لامعة مثل عمر سليمان الذي حصد مئات ملايين المشاهدات في العقد الأخير.

والحال أن الأغنية الشعبية كانت، طوال العقود الماضية، أداة من أدوات السلطة في سوريا، وفي المشرق، عبر الدفع بأسماء معينة ودعمها، مثل علي الديك وأمثاله من مغني الساحل السوري، لتقديم الخطاب الدعائي الذي يروج للقادة السياسيين والأنظمة الحاكمة. وعلي الديك نفسه، كنموذج فاقع في تفاهته، تطور تدريجياً بسبب علاقته الوطيدة بالنظام، من غناء "الحاصودي" التي صنعت شهرته، إلى "الله محيي الجيش" وغيرها، وأدى ذلك الدعم الرسمي لظهور "أغاني الكراجات" في سوريا وهي نسخ من الأغاني التي تبث في الملاهي الليلية ويؤديها فنانون مغمورون بالوتيرة نفسها من الإزعاج، مع تشويه أعمّ للفولكلور السوري الأشمل ووسمه سياسياً ثم ثقافياً بصفة الرداءة.

لكن الفولكور السوري المهمش لسنوات، يبدو في المجمل حزيناً بحديثه عن البسطاء والمهمشين، بلغتهم، لأنه يأتي من قبل البسطاء والمهمشين أنفسهم. واليوم يمتلك هذا النوع من الفن، إمكانية للظهور والانتشار في مواقع التواصل، ويبدو خارجاً عن المألوف ويتهم بالرداءة والانحطاط والبساطة المفرطة إلى درجة "الشوارعية"، لأنه خارج عن السيستم العام الذي حدد الخطاب السياسي لعقود بموجبه الجيد من الرديء. وجماهيرية هذه النوعية من الموسيقى لا تعكس بالضرورة عبقرية موسيقية، بقدر ما أن ذلك النجاح هو توصيف للجمهور الذي يستسيغ الفن الشعبي لأن الجمهور نفسه يعاني التهميش ويعيش في دائرة مغلقة من البؤس الاقتصادي والاجتماعي بسبب ضغوط السلطة والمجتمع. 

بالطبع، يمكن التوقف عن المباشرة التي تحويها الأغنية في ما تتحدث عنه كأمر سلبي، لكن تلك المباشرة جعلت منها نكتة أو "كيتش" قابِلَين للتداول بسرعة وتلقائية في مواقع التواصل أيضاً. وذلك أمر لا تتحمل وزره الأغنية نفسها، بقدر ما يتحملها من ينشر تلك الـ"ميمز" الجارحة، كأن يتم تحميل مقاطع من الأغنية مع صور القتلى على شواطئ البحر المتوسط أو مع صور اللاجئين العراة الذين تتقاذفهم السلطات اليونانية والتركية كل مرة على الحدود بين البلدين، أو مع صور مركب طرطوس الذي أقل لاجئين سوريين ولبنانيين وغرق في أيلول/سبتمبر الماضي.



كاكيلو كتب عبر صفحته الشخصية في "فايسبوك" رداً على المنتقدين ربما: "منذ اكثر من عشرين سنة وأنا أغني على أوجاع شعبي وتشردهم وآلامهم وأوضاعهم المعيشية. ودائماً مع الحدث بكلماتي البسيطة وصوتي المتواضع، وكوني عشت وترعرعت ودرست في مدارس سوريا وخدمت علمها ولنا علاقات جيدة مع أخواننا العرب سواء في المدارس أو في الجيش أو أخواننا العرب في المنطقة". وأوضح أنه سجل الأغنية بالعربية والكردية لأنها "تحاكي واقع شعوب منطقتنا وسوريا بشكل خاص"، مضيفاً أنه كتب مقطعاً باللغة العربية "تضامناً مع أخواننا الأيزيديين و العرب في سوريا الذين تشردوا ودمرت بيوتهم واستشهدوا وغرقوا في البحار كواجب إنساني وأخلاقي".

بالتوازي، يمكن القول أن الأغنية تبتعد عن الكليشيهات التي تقدم في أغنيات أخرى مماثلة مثل "دور ع حالي" لأمل عرفة، والتي تتحدث عن النوستالجيا والحنين وتروج لمفاهيم سامة مثل الانتماء إلى وطن "البعث" وعائلة الأسد ضمنياً، وترويج مقولة "كنا عايشين"، وهو تيار ينسحب على الدعاية السورية الرسمية والمسلسلات السورية التي تحاول الترويج لصورة مشرقة للحياة في سوريا بوصفها "مهد الحضارات". لكن الأغنية نفسها تقدم كليشيه من نوع آخر ينتشر في مواقع التواصل حول ألام الغربة: "اللي شافو الشعب السوري ما يتحمله الحجر".

وعليه فإن اليأس المكرر في هذه النوعية من الأغاني الرائجة، هو نتيجة لواقع لا يتغير فقط. لا شيء يحدث في سوريا منذ العام 2016 عندما انتهت معركة حلب الحاسمة لصالح النظام السوري وحلفائه، أما الباقي فكان مجرد تفاصيل للزمن، وحتى قبل ذلك التاريخ كان الحال في سوريا مظلماً لأن كل ما ثار من أجله الشعب السوري العام 2011، أي الحريات العامة والانفتاح السياسي والديموقراطية، تبخر بسبب الأسلَمة والعسكرة التي طغت على المشهد لسنوات، مع وجود هامش زمني أوسع لتقديم البكائيات لحقيقة أن المشاكل السياسية ليست آنية بقدر ما هي مستمرة منذ عقود بسبب الدكتاتورية الحاكمة.

والسؤال هنا: هل الغربة أصلاً أمر سلبي كي يتم نقده والبكاء عليه؟ والجواب يتعلق ربما بظروف تلك الغربة، فالحرب السورية أثبتت شيئاً واحداً وهو أن وجود وطن سوري واحد وهوية سورية جامعة لم يكونا أكثر من وهم رومانسي، وبالتالي فإن الخلاص من ذلك الوطن القسري الذي يأخذ ولا يعطي، يجب أن يكون نعمة تستحق تخصيص عشرات الأغاني للحديث عنها. لكن الغربة التي يتم الحديث عنها هنا، تدور حول البؤس اليومي في حياة المخيمات والمطاردات الدائمة والبحث عن الأمان ومحاولات الهجرة غير الشرعية والموت في عرض البحر، وغيرها، ولا تتعلق فقط بمن نال حق اللجوء وبدأ حياة جديدة في الدول الغربية حيث يمكن نظرياً على الأقل مناقشة الغربة كفرصة لحياة أفضل في المستقبل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها