الإثنين 2022/10/17

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

الإيجابية السامّة.. شعراء إنستغرام

الإثنين 2022/10/17
الإيجابية السامّة.. شعراء إنستغرام
increase حجم الخط decrease
تحول اليوم العالمي للصحة النفسية إلى مهلكة في فايسبوك وإنستغرام. يوم طويل أنهكنا جميعاً. سيطر شعور بأنه لا مفرَّ من لوحة نشدُّها إلى صدورنا، تخبر الذاهب والآتي أننا "كلنا مرضى".

دقة التعبير هنا محتملة جدًا، لكنها ليست بالضرورة ما تقتضيه الحاجة بالنسبة لبعضنا أو معظمنا، وربما كلنا... لنخبر، لنكاشف، وأيضًا لنقرأ بوحًا ثقيلًا بلا توطئة. بعضنا يكفيه الاطمئنان على من يخفون مَللَهم من هذه الحياة بحب ركوب الدراجات، بالتريُّض في صباحات باردة، أو بمشاركة ألعاب فايسبوك والتعليقات المبالَغ في وفرتها.

هذا الإعلان المجاني لمكاشفات وازنة بالمآسي والصدمات المدفونة، قد لا يكون مستساغًا ولا متناسبًا مع هشاشة بعض المتلقين. تهجَّمَت اعترافاتٌ عشوائية على الهائمين في هذه الصفحات الافتراضية، الهاربين، الراغبين في قتل شيء ما... وهم يعرفون أنهم لن يحملوا بعد تجوالهم البائس سوى كمٍّ هائلٍ من المشاعر السلبية، أسبابُ بعضِها مفهومةٌ وأغلبُها لا. وهذا أدعى لجعلهم متذبذبين من انفلاشٍ مزاجي قاتم.

بدت هذه المنشوراتُ حبلًا من ضيقٍ واختناقٍ، التفَّ حولنا وثبتَّنا في نهاية هذا اليوم الطويل عند رغبة مسائية في الاختفاء. "كلنا مرضى"؟ طيب، وماذا بعد؟ نحاول التعافي أو تخدير الألم، نستعين بحركة مفرطة لإنهاك جسدنا الذي، ما إن يتكاسل، حتى ينهض عقلُنا بنا للسعي في أكثر من متاهة. منّا مَن يستعين بإسهال كلامي لمنشورات لا تعدّ ولا تحصى. ومنا من يلجأُ إلى شِللية افتراضية يستعيض بها عما اعتاده في الحياة الواقعية المتشظية الآن، لكنه لا يستطيع العيش من دون هذه الجرعة، يبتلعها بسمومها، بتفاهتها وفضائحيتها وانبطاحيتها وتنمرها و"تشبيحها" وضرورات تقديم ولاءات الطاعة والمُريدية، من أجل برهة من الاعتراف به ومصادقة هزيلة على "إنجازه".

إنه يوم مسمومٌ طويلٌ، في طياته هذا... وفيه أيضًا الكثيرُ من منشورات الطاقة الإيجابية التي تفيض عن العارفين والضاربين بالرمل على حد سواء. تكاد الحسابات في الفضاء العام الافتراضي تصاب بالعطب والشلل، بسبب غزارة منشورات تحثنا على التفكير الإيجابي، ولأنها تلقى رواجًا عظيمًا من مصدّقين ومحبطين وقلقين لا يجدون مهربًا من تصفح فيديوهات "reels" بحثًا عن نوم مسلوب مثلًا، باتت سمةً عند من يتمظهرون في خانة ما يسمى بـ"شعراء إنستغرام".

قدمت لي تغريدةٌ في "تويتر" منشورًا مغمسًا بكلمات من "الحكمة"، مع صورة شابة في أبهى حلة وفي وضعية نجمات الغلاف، ويقول المنشور وفق ترجمتي: "للشفاء، عليك أن تمسك بجذر الجرح وتُقبّلَه صعوداً"... مَن هذه التي تطرح الشفاء على طريقة "بوس الواوا" لهيفاء وهبي؟ يقول المنشور إنها منسقة أزياء، ودمغت صورتُها التي ظهرت فيها فارضةً هويتَها أو دورَها كـ"مؤثرة"، بختم التأكيد.

لكن ضيقي من فيضان الإيجابية السامة، الذي أغرقَنا بسيل من مقولات تتفه معاناة حقيقية يعيشها مختبرو الصدمات وحاملو الندبات النفسية والاضطرابات العقلية، دفعني لطلب النجدة من صديقي "غوغل". Rupi Kaur، هذه الشابة السمراء، كندية- هندية، تعتمر قبعات عديدة، فهي منسقة أزياء، مؤثرة/ناشطة وشاعرة... كتابها "الشفاء عبر الكلمات"، يحطم قياسًا عاليًا من الإعجاب والمتابعات عبر "إنستغرام" وغيرها من المنصات، أما البيع فهو وافرٌ وسريعٌ، على ما يقول موقعها وصفحتها. تبدو كاور، كما تقدم نفسها في "إنستغرام"، "شاعرة التفكير الإيجابي"، تطرح وصفات "شعرية" خفيفة وسريعة للتعافي من الصدمات وتمكين المرأة، من دون أن تنسى مناصرة حراك النساء في إيران.

المعالجة النقدية لشاعرية كاور، مَهمة يتناولها مهتمون بالفعل بمقارنتها مع شاعرات "تقليديات" وفي سياق مقاربات تحاول فهم هذه "الظاهرة" التي لا تنفرد بها كاور، في سياق المتغيرات الطارئة على الشعر إنتاجًا واستهلاكًا في الغرب. 

لكن في موازاة ذلك النقاش، يبدو أن الثابت هو تمكن كاور الباهر من استغلال الجوع لكبسولات الراحة إلى أقصى حد. يتجلى ذكاء الاستثمار والتجارة لديها، أو لدى من يقدمها كرِياديّة، في أكثر من صفحة في موقعها. لو أردت نص الشفاء على شكل وشم، فهو لك. تريد علاجًا تقليديًا على طريقة إمساك الكتاب في اليد؟ إشترِ نسخة من ديوانها. تريد جرعة من الجمال الإكزوتيكي في العالم الأبيض؟ لك صورٌ لا حصر لها للحلم والتماهي.

ليست كاور الوحيدة التي تتخذ من الصحة النفسية "تكية" للانتشار الشعري الإنستغرامي، وتاليًا لتتمكن من غزو مساحة أكبر من السوق المتاحة، لكنها على الأرجح من أكثرهم حنكة ودهاء. إذ تبدو أكثرهم إتقانًا لألف باء "كيف تصبح شاعرًا وتحقق أرباحًا في إنستغرام". يشير مقال منشور، تحت عنوان بهذا المعنى، إلى أن ما يتصل بالصحة النفسية من شأنه تعزيز الحظوة من نقرات الإعجاب والمتابعين، وهي خطوة أساسية لجذب رعاة المال وفتح أبواب شراكات الترويج لمنتجات أخرى... بيعُها وتقاسم الأرباح مرتبطان بقدرة المرء على أن يكون الشخص الدعائي الأمثل للمنتج.

ماذا يفعل ذلك بالشعر؟ ماذا يفعل ببناء القصيدة؟ بمقاطعها، بلونها، نغمها وموضوعها؟ هذه الأسئلة، التي يطرحها مهتمون بمتابعة هذه الحركة الناشطة في أوروبا وكندا والولايات المتحدة، لا تشغل بال مؤثري "إنستغرام"، شعراء اللحظة، فهُم يعرفون الإجابة. نصُّ المنشور جملة، والقصيدةُ جُملٌ متناثرة تباعدُها دقائق في النشر، وصورٌ جاذبة وضخٌ مكثف من الإيحاء بأن البلسمة لكل محنة تكمن في المتابعة المتواصلة والشراء الدؤوب لاقتناء الحاجيات الصغيرة والأوشام والزيوت... وذلك من أجل "الشفاء والإيجابية المطلقة".

لكن السؤال المُلحّ في بالٍ قلقٍ وتعب، كيف التصدي أو لا... لا داعي للمواجهة، كيف الهرب؟ ممن يبثون الإيجابية السامة بشكل ملحاح، ويحولون صراعاتنا إلى سذاجة، ويحاصرون جروحنا ويطمسون آلامنا، وأصبحوا الآن يستحوذون على منافذ الراحة المستقطعة من رحلات علاج طويلة، نجدها أحيانًا في فيلم، في لوحة، في مقطع موسيقي وأغنية، مرة بصوت شجي ومرة بـ"راب" غاضب شاتم، ومرات في الشِّعر...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها