الأحد 2021/08/15

آخر تحديث: 13:36 (بيروت)

خطبة الشيخ الرفاعي: الناشطون السوريون يتحسسون رقابهم

الأحد 2021/08/15
خطبة الشيخ الرفاعي: الناشطون السوريون يتحسسون رقابهم
increase حجم الخط decrease
"كم أنت محظوظ يا بشار الأسد بمعارضيك"! أصبح هذا الاستنتاج هو الخلاصة الأبرز التي توصل إليها السوريون على اختلاف توجهاتهم. وفي الطريق للتوصل إلى هذا الاستنتاج، تتعدد التفسيرات بين ما هو مبسط ويصلح لكتب الأطفال، مثل مقولة أن "الثورة لطالما كانت مدنية، وأن الأسد أسلمها"، أو التفسير الكرتوني المقابل بأن "الثورة إخوانية منذ بدايتها". وبين هذا وذاك هناك تحليل أقرب للواقع يركز على "أثر غياب العمل السياسي، وضياع المطالب الجامعة في متاهة الولاءات وشبكات المصالح".

لكن كل التعجب أو الإعجاب السابق بحظ النظام بمعارضيه لن يمنع الصدمة والمفاجأة الجديدة، بعدما ورد في خطبة رئيس المجلس الإسلامي السوري، الشيخ أسامة الرفاعي، في مدينة "اعزاز" بريف حلب شمال البلاد، وما واكبها من تبريكات من قبل جمهوره، قادت إلى قناعة مفادها أن "كلام الرفاعي مؤشر على الانتقال لمرحلة جديدة في عمر الثورة السورية"!.


وخلال خطبته، الجمعة، في "مسجد أعزاز الكبير" شن الرفاعي هجوماً على النساء السوريات العاملات في منظمات المجتمع المدني، واصفاً إياهن بـ "المجندات من الأمم المتحدة ومراكز الكفر والتضليل لإفساد الشباب والنساء".

وفيما قوبل كلام الشيخ الرفاعي بموجة انتقادات من قبل شخصيات وجهات عدة، أبرزها "اللوبي النسوي السوري" الذي أصدر بياناً أدان فيه" الخطابات التي تحرض شريحةً من الشعب السوري على أي مكون أو فرد أو مجموعة، بسبب الاختلاف الديني أو الفكري أو النشاطات الحقوقية"، فإن الخطبة نفسها أتت بعد أسبوع من التحريض ضد الناشطات السوريات تحديداً شارك فيها شخصيات عامة من ضمنها أعضاء في الائتلاف السوري المعارض، لم تختلف في الجوهر عما تفوه به الرفاعي.



والحال أن مضمون الخطبة لا يختلف بالمجمل عما يصدر عن رجال الدين في مناطق المعارضة أو النظام أو سواها، لجهة الحديث عن الغرب كرمز للشرور، واستخدام لغة إقصائية محاطة بكلمات لطيفة، ومغلفة ببحة صوت متواضعة ناعمة تواري رسائل العنف خلفها. غير أن الرفاعي لجأ لوصفة خطيرة أكثر وضوحاً في كلامه، تتواجد عادةً أثناء الحروب أو قبل جرائم الشرف، حيث لم يكتف بوصم عاملات المنظمات بالعمالة للخارج، بل شدد على أنهن يستهدفن "بناتنا ونساءنا بالأخلاق الضالة والعري والتعري".

ومما يؤكد خطورة تلك الرسائل، أن "اللوبي النسوي السوري" استشعر فحواها، فاعتبر في بيانه أن التحريض ضد الناشطين "قد يضعهم تحت الخطر، خصوصاً في مناطق تحكمها مجموعات مسلحة وبعضها متشددة".



خطبة الرفاعي أعادت إلى أذهان عاملات وعمال المنظمات صوراً مرعبة لاستهدافات سابقة طاولت الناشطين المدنيين في مناطق المعارضة، لعل أشهرها اغتيال الناشطين الإعلاميين رائد الفارس وحمود جنيد في مدينة كفرنبل بريف إدلب العام 2018، من دون نسيان جريمة اختطاف الناشطة الحقوقية رزان زيتونة في مدينة دوما قرب دمشق العام 2013.

هذا الواقع يشكل سمة عامة للمناطق المحكومة من قبل فصائل أو ميليشيات تحمل خطاباً أخلاقياً يربط بينها وبين جمهورها، بما يصنع من هذه القوى "حراساً للفضيلة" يسهل عليهم تجنيد قتلة مأجورين مدفوعين بحماية "الجنة الأخلاقية الأرضية"، كما هو الحال في مناطق "الحشد الشعبي" في العراق.

وفي الحالة السورية، يصبح الناشط أو الناشطة أيضاً ضحايا لقاتل يترجم تعليمات بشرية أو "أوامر إلهية" تلتهم عقله. إلا أن ذلك لا يلغي المسؤولية الجزئية للمجتمع المدني عما آلت إليه الأمور!. فإذا كان هؤلاء الناشطون ضحايا بالمعنى الإنساني والقانوني لجرائم نظام الأسد والجماعات المتشددة، وتلك حقيقة لا جدال فيها، فإن الجهات المحلية والدولية التي تظللهم مسؤولة سياسياً وفكرياً لكونها حولت الحراك السوري إلى "ثورة أخلاق وكرامة وتضامن"، وقدمت خطاباً سائلاً يتقصد السذاجة، و"السير خلف قيادة الجماهير"، واعتبار الألم المشترك برنامج عمل، وعنصراً وحيداً يجمع شتات السوريين، إلى درجة بات مدراء بعض المنظمات والمؤسسات أشبه بكهنة أو شيوخ لدين "التضامن" وفضيلة احتضان "الأكثر فقراً" و"الأكثر تهميشاً" و"الأكثر وجعاً".

ويبقى البعد الأهم لكلمات الرفاعي وهجمة "المتشددين" على المنظمات، هو ما كشفته تغريدة مدير إدارة التوجيه المعنوي في "الجيش الوطني السوري"، حسن الدغيم، الذي بدا وكأنه يعلن انتهاء شهر عسل بين الفصائل والمنظمات، حين قال إن الحركات النسائية "تخفي وراء دعاوى التحرر أنياباً مصطكة وشفاهً متلمظة على مواقع الثراء والنفوذ والطمع السلطوي".


وتأتي أهمية هذه التغريدة من كونها تؤكد حقيقة أن مراكمة لغة أخلاقية فوق النزاعات تهدف إلى إخفاء جذر الصراع، وهو الاقتصاد والنفوذ. وليس سراً وجود قوتين رئيسيتين في مناطق المعارضة، الأولى هي "سلطات الأمر الواقع" ممثلةً بتحالف السلاح (الفصائل) مع السلطة الدينية (هيئات ومرجعيات)، والثانية هي منظمات المجتمع المدني.

وبهذا المعنى فإن الإطار العام للنزاع بين الطرفين يرتبط بما تملكه كل جهة من قوة أو مكانة، وبالتنافس بينهما على الامتيازات التي ترفعهما عن مستوى جمهور المعارضة ذي الدخل المحدود، وتضعهما أمام "مصادر تمويل مفتوح"، من إدارة معابر وخوّات أو افتتاح مشاريع وحملات، تعتمد جميعها على استمرار وجود "المستضعفين والمقهورين والمعذبين".

وبناءً على هذه المعطيات فإن وصف كلمة الشيخ الرفاعي بـ"النقلة" لن يكون مبالغةً أبداً، طالما أنه نقل الوعي بالثورة إلى مرحلة "اللعب على المكشوف"، سواء من جهة تحديد "الخصم" الأساسي للسطات الثورية، ووضع عاملي المنظمات تحت الخطر، أو جهة مصارحة الناس بطبيعة المشروع الحالي لزعامات مناطق المعارضة، من دون الإكثار من عبارات التسامح والتعايش المسمومة، ومن دون العودة لربط المشروع الإسلاموي بمظلوميات خارج سياق الحدث، والتهرب من الإقرار بنية الفعل، عبر سردية "رد الفعل على ظلم قديم"، والانتهاء عملياً من اختزال الوضع السوري بحكاية "الحسناء الثورية والوحش الإسلاموي" الأسدي أوالتركستاني او الأفغاني.

بالإضافة لذلك، كشفت الخطبة وتداعياتها أن طيفاً من جمهور الأسلمة، المجيش بالمال أو بوعود الدار الآخرة، أصبح من الصعب مخاطبته بالطرق التقليدية، لأنه انتقل إلى مستوى متقدم من الانغلاق والاستزلام، بحيث أصبح منيعاً ضد أي مفردة لا يتضمنها "كاتالوغ الفضيلة" الخاص به، فتراه يتقمص بسرعة دور "الطبيب النفسي" الأصم عن الحقيقة أو الواقعة، والباحث عن النوايا المبيتة وحسب، والساعي لإثبات وجود "عقدة نفسية" لدى كل من يفككون خرافاته، أو يهاجمون معبوديه من شيوخ أو دور عبادة أو رموز تاريخية، أو أي شيء تطاوله مشاعر القداسة والتقديس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها