السبت 2021/07/24

آخر تحديث: 17:26 (بيروت)

نوستالجيا الأغنية التركية: تاريخ من حزن وبحر

السبت 2021/07/24
نوستالجيا الأغنية التركية: تاريخ من حزن وبحر
المغني التركي إبراهيم تاتليسس
increase حجم الخط decrease
إن كان لحكّام تركيا وشعبها هوس حقيقي بالماضي، فإن النوستالجيا لكل ما هو قديم تتعدى في الواقع الجانب السياسي المتمثل بإعادة إحياء قوة الإمبراطورية العثمانية القديمة بثياب حديثة، أو تعزيز الأساطير المحلية التي تركز على عظمة أمجاد الأجداد، بل تطغى على كل شيء بما في ذلك الفن وأغنياته القديمة. ويزخر التراث الفني التركي بعشرات آلاف الأغاني، ليشكل أرشيفاً ضخماً من حيث الحجم والتنوع، مازال يُسمع بكثافة في الراديوهات المحلية والمحطات التلفزيونية المعنية بشؤون التراث والفن.

ينقسم فن الغناء التركي لأنواع عديدة، لكن الأغاني الشعبية والكلاسيكية والعسكرية هي الأكثر انتشاراً من حيث العدد والتأثير والرواج الحاليين. تليها أغاني "الأرابيسك" التي تتشابه ألحانها مع ألحان الأغنيات العربية الشعبية، ثم الموسيقى الصوفية، فالأغاني متعددة اللهجات التي تدمج بين تراث شرقي تركيا مع جنوبها وشمالها. تختلف تلك الأنواع من حيث الآلات الموسيقية المستخدمة، تماماً مثلما تختلف في اللحن والسرعة والأسلوب. إلا أن شيئاً واحداً لا يفارقها كلها، وهو الحزن.

تتميز الأغاني التركية القديمة، ونسبة كبيرة من الأغاني الحديثة، بخاصية إضفاء الحزن على ألحان الأغاني وكلماتها. يبرز ذلك تحديداً في الأغاني الشعبية والكلاسيكية والصوفية التراثية. أما الأغاني العسكرية، فهي، وإن كانت تروّج لكثير من مشاعر الحماس والإفتخار، إلا أن الحزن لا يغيب عنها، فتتحسر على حال الإمبراطورية أو ضياع الأمة، أو تنعي شهيداً من هنا أو سقوط مدينة من هناك.

تختلف أغاني "الأرابيسك" عن غيرها من حيث اللحن. هذا النوع من الأغاني سريع ويصلح للرقص، وغالباً ما يُستخدم في السهرات وجلسات السمر والكحول، إلا أن نسبة مقبولة من كلمات تلك الأغنيات فيها ملامح من حزن عن حب ضائع، أو مصيبة في قرية. أما تلك متعددة اللهجات، فلها رونق خاص، إذ تتضاعف جرعة الحزن مع اللحن الأناضولي أو الشمالي في المدن المنتشرة على البحر الأسود، وتقل الجرعة إن كانت الألحان واللهجات خاصة بسكان الجنوب في المدن المنتشرة على البحر المتوسط.

ويعود الحزن في الأغاني التراثية التركية لأسباب عديدة. فمنها ما هو مرتبط بالسياسة، ومنها ما هو مرتبط بالأحداث أو الجغرافيا. وبالطبع، فإن الأغاني والألحان بنات جيلها، وهي مرتبطة بالأحداث والذاكرة الجماعية والفردية لمن يؤلفها.

والحال أن معظم الأغاني التراثية التركية أُنتج بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي مرحلة لم تكن كثيرة البهاء أو الراحة في تركيا. وبالتالي، فإن من عاش في تلك الفترة وألّف لحناً أو كتب أغنية، كان يعيش في بلد يسيطر عليه الفساد والركود الاقتصادي والقمع الحكومي وبطش العسكر، كما العنف السياسي والاغتيالات اليومية بين شبان الحركات اليسارية واليمينية. بالإضافة إلى ذاكرة جماعية مرتبطة بالحرب العالمية الأولى، وما خلّفته من إنكسار للسلطنة العثمانية، وإنحسار لدور تركيا الجديدة، وذكريات عن المجاعات الجماعية ودمار المدن.


أما التاريخ التركي القديم، فهو عملياً تاريخ من الموت والشهادة والهزيمة، وليس فقط البطولة العسكرية والإفتخار وجمال قصور السلاطين. وأثّر ذلك في الفن، بطريقة أو أخرى، وجعل الحزن لصيقاً بالإنتاج الفني التراثي. كما أن للجغرافيا دوراً أساسياً في إضفاء ألحان وكلمات الحزن على الأغاني التراثية. حيث تتسم بالحزن غالبية الإنتاجات الفنية التركية القديمة، كما تلك الحديثة، للفنانين الذي يسكنون المدن البحرية. ولا يرمز البحر هنا، لمغامرات العشاق اللطيفة، إنما للفراق والشوق.

على سبيل المثال، فإن مدينة مثل إسطنبول التي يشقها البحر قسمين ويزنر أطرافها الشمالية والجنوبية، عاشت خلال الستينيات والسبعينيات هجرات كثيفة إلى أوروبا، مع بدء تحرر للمرأة في شكل علاقاتها مع الرجال ونزوح كثيف من القرى إلى المدن. ساهم ذلك كله في إنهاء شيء من سطوة الأهل على أبنائهم وتوجيههم إلى قطاعات العمل التقليدية، كما خفف من تحكم الرجل في المرأة بشكل كبير. وأثّر هذا التغيير الاجتماعي في فن الأغنية، بالطبع، فباتت غالبيتها تتحدث عن الشوق إلى الحبيب وفراق المحبوب، وتعذيب المرأة للرجل وحبه لها من طرف واحد، وهجرة الأبناء إلى الخارج والموت في بلاد الغربة، والنوستالجيا إلى القرية قبل النزوح إلى المدن.


كذلك الأمر، عاشت منطقة شرقي تركيا، خلال السبعينيات والثمانينيات، حالات كثيرة من عدم الاستقرار، حيث اندلع الكثير من الاشتباكات بين الأكراد والسلطات المحلية التركية. وقُتل عشرات الآلاف من الطرفين في مواجهات دامية لم توفر أحداً. وفُرض قانون الطوارئ في تلك النواحي من البلاد، وباتت المدارس وتلاميذها مسرحاً دموياً لصراعات القوميين الأكراد، والقوميين الأتراك، على الأجيال الناشئة. أنتج كل هذا العنف نوعين من الفن الكردي، باللغتين التركية والكردية: نضالي عسكري يبحث عن وطن غير ممكن، وآخر حزين يقدس الشهداء والشهادة، ويعزز الإرتباط بالجذور وخيباته المتتالية.


ومع نهاية التسعينيات، تغييرت هوية الفن التركي بعض الشيء. تم تحديث بعض الأغاني العسكرية التراثية، وباتت الألحان الصوفية أكثر انتشاراً. دخل "البوب" و"الروك" على المشهد الفني الحديث، فأدخل معه نوعاً جديداً من الأغاني أضفت فرحاً على هوية الفن التركي العام، رغم عدم الخروج الجذري والجريء من الهوية الحزينة لغالبية الأغاني التركية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها