السبت 2021/07/17

آخر تحديث: 17:06 (بيروت)

نحن عبيدك يا بشار!

السبت 2021/07/17
نحن عبيدك يا بشار!
increase حجم الخط decrease
"نعجة صامتة" هو ملخص تعريف رئيس النظام السوري بشار الأسد للمواطن المثالي في "الدولة السورية" أثناء خطاب القسم الذي ألقاه في قصر الشعب في دمشق، السبت، فمشكلة الثورة السورية وعدم الاستقرار في البلاد لم تحدث قبل 10 سنوات إلا بسبب قلة الوعي وعدم وجود "المسلمات" و"البديهيات" لدى السوريين.

هو اعتراف نادر ربما بأن محاولات أدلجة السوريين طوال عقود فشلت رغم محاولات حزب البعث الحاكم غسل أدمغة السوريين منذ طفولتهم عبر مؤسسات يُجبر الأفراد على الالتحاق بها منذ سن صغيرة، بالتزامن مع أنباء غير مؤكدة في وسائل الإعلام الموالية مؤخراً عن توجه رسمي لإلغاء منظمات طلائع البعث وشبيبة الثورة. ويبدو من الخطاب أن النظام يتوجه في المرحلة المقبلة لتعزيز تلك العملية إما عبر المنظمات نفسها التي كانت في العامين الأخيرين شديدة الحضور في التفاصيل السورية اليومية في المدارس تحديداً، أو عبر منظمات جديدة تحاول تقديم الأيديولوجيا السامة نفسها من دون التسمية البعثية المنفرة.

وإلى جانب التلميحات السياسية والعسكرية الخاصة مثلاً بدعم كافة أشكال "المقاومة" السلمية والعنفية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ضد أعدائه "الأميركيين والأتراك"، ركز الخطاب مراراً وتكراراً على عدم امتلاك الرأي كشرط للمواطنة. فكل شيء من تحديد الانتماء إلى معنى الوطن إلى المعارضة وحتى القرارات الشخصية الخاصة بالعبادة والتوجهات الجنسية وغيرها وفق هذا المنظور الرجعي ليست إلا مسلمات وبديهيات تولد مع الفرد وتحددها بيئته الأصغر التي يعيش فيها، لا أكثر.



وعلى اعتبار أن الحريات الفردية هي العدو الجديد للدولة السورية، كما يظهر في كل خطاب يلقيه الأسد مؤخراً، فإنه اعتبر اليوم أن أدلجة السوريين من الخارج هي التي فشلت، عندما فسر "الانتصار على الإرهاب". ولا يعتبر ذلك تناقضاً ضمن الخطاب نفسه بل هو تقسيم كلاسيكي للشعب السوري منذ العام 2011 بين عدو خائن أو مغرر به في أحسن الأحوال، أو جنود أو مشاريع جنود مستقبليين. وتصبح مهمة الدولة السورية هنا هي تلقين المواطنين طريقة التفكير الصحيح شاؤوا أم أبوا وإلا كان العقاب.

ويعني ذلك أن النظام السوري يسعى إلى إعادة تكريس جذوره القمعية بالقول أن الثورة كانت حدثاً عرضياً خارجياً انتهى، وأن المواطنة في سوريا الأسد تقتضي الخضوع التام للقيادة، وإلا كانت هنالك عقوبات وخيمة بالمرصاد، وتبرز هنا حالات الاعتقال الكثيفة التي شهدتها سوريا مؤخراً لأفراد من بينهم عاملون في التلفزيون السوري لمخالفتهم خطاب السلطة الرسمية، ليس فقط على صعيد الأفكار بل أيضاً من ناحية المفردات المستخدمة للتعبير عن الولاء نفسه.

والحال أن حديث الأسد عن العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة بمجتمع السوريين، مستفز لدرجة أنه يلخص كل الأسباب الفكرية التي تجعل الثورة على النظام مبررة وردّ فعل طبيعياً ومنطقياً، فالدولة الأسدية تجاهر هنا بأنها دولة محافظة تحمي المجتمع والأسرة من قيم "الليبرالية الحديثة"، أي الحريات الفردية بوصفها مشروعاً غربياً للسيطرة على المجتمعات وتفكيكها، بدلاً من حقيقتها كتطور طبيعي ضمن حقوق الإنسان. ويصبح الشخص الخارج عن العقيدة الجمعية السائدة "حيواناً" وخائناً أو مغرراً به. أما من ينتقد تلك السياسة ويطالب بالإصلاح السياسي، فهو إما ساذج وجاهل وبحاجة إلى النصيحة، أو خائن وعميل وبحاجة للملاحقة والعقاب.

هذه الازدواجية تشرعن العنف الذي يقوم به النظام من جهة ضد النصف الأول من شعبه، وسياسة الوصاية التي تمارسها "القيادة الحكيمة" على النصف الثاني من جهة أخرى. والهدف من ذلك كله، نظرياً، هو السعي نحو مجتمع متجانس أو توليد هوية قومية جامعة، وهو ما فشلت فيه الدولة البعثية/الأسدية منذ ستينيات القرن الماضي، بينما أثبتت الحرب السورية طوال عشر سنوات أن فكرة وجود هوية سورية جامعة ليست سوى وهمٍ رومانسيٍ بأفضل الأحوال، حيث كرست سياسات النظام هويات طائفية يخشى بعضها بعضاً.

وباتت الدولة الأسدية تواجه اليوم مشكلة أيدولوجية أكبر لأن الإنترنت حرم الدول الشمولية عموماً من أدوات كانت تستخدمها للسيطرة على الأفراد مثل حجب المعلومات والتحكم بالضخ الإعلامي، وإن كانت تمتلك في الوقت نفسه أدوات جديدة لضخ المعلومات عبر مواقع التواصل وخلق الأخبار الكاذبة وحتى مراقبة الأفراد بسهولة.

وفيما ترافق الخطاب مع جولات التصفيق المعتادة ومع أبيات الشعر المادحة بالأسد والشعارات التي صدحت بها حناجر الحاضرين من المدرسة الكلاسيكية كـ"بالروح بالدم نفديك يا بشار" إلى الحداثة المتمثلة بعبارات صريحة كـ"نحن عبيدك يا بشار"، كان المشهد البصري الذي نقلته الكاميرا مدروساً بدقة، حيث برز الحرص على خلق وهمٍ بوجود تأييد شعبي شامل للأسد بعد الانتخابات الأخيرة التي نُظر إليها عموماً كمسرحية فاقدة للشرعية، ولأجل ذلك الغرض كان هنالك أفراد من كافة الفئات الدينية والاجتماعية، بداية من رجال الدين المسلمين والمسيحيين و"الأخوات" من تنظيم القبيسيات الذي نال الرضى في السنوات الأخيرة، إلى العساكر وجرحى الحرب والفنانين مثل زهير رمضان ومنى واصف، والمسؤولين وأفراد قاطعوا الأسد ليعلنوا عن هويتهم المناطقية قبل أبيات الشعر والزجل.

على أن أكثر ما لفت الانتباه في الحضور كان مجموعة من أساتذة الأسد الذين درسوه في مراحل عمرية مختلفة، وجه لهم التحية في بداية الخطاب وكأنه شخص طبيعي ووفي وليس مجرم الحرب المعروف الذي دمر آلاف المدارس في البلاد وشرد العائلات وقتل الأطفال. وفي التغطيات المرافقة للخطاب يظهر الأسد في هذا الموقف كرجل وفيّ ومتعلم فهو طبيب قبل أن يكون رئيساً وهو حكيم يجب على الشعب إطاعته في أقسى الظروف من دون حتى انتقادات في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو المعلم الملهم مثلما كررت الهتافات الآتية من الحضور أيضاً.

وفي المحصلة لن يحدث الخطاب أي تأثير في المرحلة المقبلة، تحديداً على المستوى الاقتصادي والخدمي، هو مجرد بروتوكول يقوم به الأسد كل 7 سنوات ضمن مسرحية الديموقراطية المزعومة في البلاد، حيث ينهض صباحاً من غرفة نومه في القصر الجمهوري ويمشي وحيداً نحو منصة إلقاء الخطاب في القصر نفسه، محاطاً بالزينة والأعلام والتصفيق والموسيقى الوطنية، وكثير من الشعارات التي حازت على الموافقة المسبقة.

ويظهر الخطاب بوضوح الهوة التي تفصل النظام، بوصفه سلطة سياسية فاقدة للشرعية، عن السوريين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية. ففيما يحاول النظام تجديد نفسه بالعودة إلى جذوره، تبقى فلسفته الشمولية محافظة على إطارها العام لسبع سنوات مقبلة لا إصلاح فيها بالطبع: "المواطنة تعني الخضوع التام للقيادة"، لكن السوريين عبروا بوضوح عن تجاوزهم لتلك المرحلة وباتوا بحاجة لنظام سياسي يلبي تطلعاتهم ضمن عقد اجتماعي جديد لا يقوم على الخضوع، وكان ذلك بالتحديد محور الثورة السورية المطالبة بالكرامة والديموقراطية معاً، ولهذا بالتحديد تبقى الثورة السورية مستمرة ولو توهم النظام العكس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها