الأحد 2021/07/11

آخر تحديث: 15:26 (بيروت)

الغذاء مقابل العمل: مستقبلنا الأكثر سواداً؟

الأحد 2021/07/11
الغذاء مقابل العمل: مستقبلنا الأكثر سواداً؟
increase حجم الخط decrease
مع اختفاء مبررات الأمَل بالأيام القادمة لدى اللبنانيين والسوريين، والاستعداد للتكيّف مع أي مستجدات، لم تَعٌد "المفاجأة" أو "الصدمة" هي ما يُحرّك الذعر والقلق، وإنما فَهمُ ظروف الانهيار، ورؤية مستقبله أيضاً!

ولعلّ أهمّ ملامح هذه المرحلة، وجودُ شعورٍ عام بأنّ "صراع البقاء" قد ينتقل إلى مستوى جديد، يخوضه كثيرون بلَحمِهم الحيّ المسكون بهاجس الغذاء والدواء، بعدما أصبحوا محكومين بالدرجة الأولى بعلاقة قهريّة مع "الخارج" مُمَثّلاً بالدول المانحة ومنظماتها. بالتوازي مع غياب دور "الدولة" في الداخل، وتآكل الرابط بينها وبين "الشعب".

وكأحد تجليات هذا الشعور، برَزَ إلى الواجهة غضبُ المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي من إعلان منظمة "بسمة وزيتونة" عن برنامجها "الغذاء مقابل العمل" والذي يهدف لتشغيل سوريين ولبنانيين في أعمال تنظيف أقنية ري ومياه، والقيام بحملات تنظيف عامة في بلدات بر الياس والمرج، مقابل حصول العامل على حصة غذائية ومواد تنظيف.

والحال أنّ الاتهامات التي طالت المنظمة بـ"الفساد" و"استغلال حاجة الناس" لم تكن أقسى ما تضمنته التعليقات، فقد جرى استحضار مفردات تتحدث عن عودة " أيام السخرة"، و"الاستعباد"، و"زمن الإقطاعيين والمرابعين بنسخته الجديدة"!.



غير أنّ أسوأ ما استدعاه الإعلان عن البرنامج في أوساط المعلقين هو تشبيهه مجازاً بـ"عِراق التسعينيات" الذي عاش تحت رحمة برنامج "النفط مقابل الغذاء"، وما تلاه لاحقاً من تحقيقات وفضائح كشفت حجم الفساد فيه، حتى أصبح مثالاً مؤلماً عن تحوّل البرامج الإغاثية إلى فرصة للمقاولات والتربح وتبادل الخدمات والسمسرة بين أطراف مختلفة (شركات، جهات حكومية، منظمات) على حساب المعذبين والمحتاجين.

ورغم الفوارق الواضحة بين المِثالَين، فإن ذلك لم يمنع من رسم صورة قاتمة أكثر شمولاً. وبالنتيجة وجدت منظمة "بسمة وزيتونة" نفسها مضطرة للردّ، فنشرت توضيحاً قالت فيه أنها أطلقت العام الماضي مبادرات مشابهة بمقابل نقدي، لكنها اصطدمت هذا العام "بعوائق قانونية عديدة ناتجة عن الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه لبنان، ومنها التحويلات المصرفية من الدولار إلى الليرة، وسعر الصرف المتدني الذي تقدمه البنوك من جهة، وضرورة الالتزام بالحد الأدنى للأجور المفروض من الدولة اللبنانية من جهة ثانية". وهو ما دفع المنظمة إلى إطلاق المشروع على شكل مساعدات غذائية، بحسب بيان اعتذار صادر عن المنظمة.



وبعيداً من ملابسات عمل المشروع على أرض الواقع، ومضامين الانتقادات والاتهامات الموجهة له، فإنّ ما يستحق التوقف والتأمل بالفعل هو اهتمام شريحة كبيرة من الناس بما صدَرَ عن "بسمة وزيتونة" التي تقوم بنشاطات في نطاق محدد، ويٌفترض أنها تعمل لصالح النازحين واللاجئين ومن هم في حكمهم من فئات "أشد فقراً" وحسبْ.!

يعكس ذلك حقيقة أن العمل الإغاثي أصبح له جمهوره المرتبط به والناقد له في الوقت ذاته. وإن كان من الطبيعي أن يؤسس أي اقتصاد، صغُرَ أم كبُر، منظومة علاقاتهِ وقيَمِه، فإن اللافت في هذه الحالة هو تزامنه مع انسحاب "الدولة" التدريجي من حياة الناس. وينطبق هذا الأمر بالتأكيد على لبنان مثلما ينطبق على سوريا.  وحتى وإن كانت هناك اختلافات في نواحٍ عديدة بين البلدين، فإن مقومات مشتركة أوصلتهما إلى الغرق سوياً، وتشهد الفترة الحالية عبورهما من عصر "الدولة الأبويّة/الريعية"، إلى عصر "كرتونة المساعدات" وسطوة "اقتصادات الظل" (منظمات، تحويلات مغتربين، مَعابِر، تهريب..) .

والحال أن هذه المرحلة التي تعيشها المنطقة ليست وليدة عوامل خاصة بها فقط، فالمتغيرات التي يعيشها العالم كانت سبّاقة لإنتاج هذا النمط من "العلاقات الاقتصادية البديلة" بشبكاتها وبالمستفيدين منها. فأصبحت المِنح والمساعدات هي الرابط الوحيد بين الذي يجمع قوى ودول تفضّل الانسحاب من أي استثمار مالي أو بشري أو عسكري أو سياسي غير مُربح لها في الشرق الأوسط أو أي مكان آخر يعيش نزاعات أو انهيارات، ليبقى "العمل الإنساني" و"إيصال المساعدات" سبباً للاجتماع والتواصل والاتفاق، وطبعاً مع ضمان دخول إمدادات المانح في الدورة الاقتصادية التي تناسبه وتلبي طموحاته، من دون أن يكلّف ذلك فتح قنوات ديبلوماسيّة غير ضرورية.

ونظراً إلى كل هذه التعقيدات والحسابات الجارية في الظل، فإنّ تسلم مُساعدات ضمن كرتونة مواد غذائية (تزيد او تنقص مكوناتها)، وتقدمها منظمة أو جمعية قرّرت لسبب ما استبدال النقدي بالعَينيّ،  قد لا يكون أسوأ ما سيَقَع لأبناء المنطقة، طالما أن المعتاد في هذا النمط الاقتصادي أصلاً هو قلّة الأرقام والتفاصيل المالية المعلنة، خصوصاً بعد عملية "المنح"، وقبلَ عملية "التوزيع النهائي".

لكن ما هو الكابوس القادم؟ بالتأكيد سيحدده انضمام دولة جديدة في العالم إلى نادي الفشل والأزمات، وسرقتها للأضواء، لتكون وجهة جديدة مغرية لِمَانِحين باحثين عن مكاسب دعائية عبر "ضحايا يستحقوّن"، وبما يؤدي بالمحصلة لتهميش الشرق ومعاناة أبنائه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها