السبت 2021/06/12

آخر تحديث: 12:21 (بيروت)

"معلّمتي الأخطبوط".. كأي قصة حب بين بشريّ ورخوية

السبت 2021/06/12
"معلّمتي الأخطبوط".. كأي قصة حب بين بشريّ ورخوية
increase حجم الخط decrease
كل شيء في فيلم "نتفليكس" "معلمتي الأخطبوط" My Octopus Teacher معد لأن لا يكون العمل الفائز بالأوسكار 2020 عن فئة الوثائقي، وثائقياً. هو أقرب إلى دراما متخيلة، شبه شكسبيرية، عن قصة حب مستحيلة بين رجل وأنثى أخطبوط.
بطل العمل، كريغ فوستر، (صانع أفلام وثائقية) يروي من البداية القصة البسيطة عنه وعن الفيلم: مصور وثائقيات (يعيش أزمة منتصف عمر واضحة المَعالم)، يقرر ترك عمله في الوثائقيات، وعالَمه، والانعزال في بيت ملاصق لشاطئ المحيط في جنوب أفريقيا. 

مكان خلّاب تُضاف إليه غابة مائية تضج بالحياة، أغرته بالغطس يومياً، مهما تدنت درجة الحرارة، للفرجة، ومن دون الاستعانة ببزة غطس أو قارورة أوكسجين. 

تحدٍّ ليس جديداً على البشري لإثبات قدرته على إقحام أنفه في أنواع من البيئة ليست صالحة له، لكنه يصرّ على نوع من العناد لا تجاريه فيه شقيقاته المخلوقات الأخرى في الكوكب، بدليل أننا لم نر يوماً سمكة قررت عن سابق تصور وتصميم أن تخرج من المياه وتمشي في الطريق عارية لتستكشف السيارت مثلاً، وتصوّرها، وتدوّن الملاحظات.


في جولته المائية اليومية، يتعرف كريغ على أنثى أخطبوط سيقع في غرامها، لحظة تقع عيناه عليها، وكذلك سنفعل، نحن المشاهدين.

في هذه المرة الأولى، سيرى أصدافاً وبقايا بحرية أخرى ملتصقة ببعضها البعض، في ما يشبه الكرة، تسقط كلها دفعة واحدة ويفر منها أخطبوط يسحب خلفه الحبر الذي يفرزه للتمويه. 

من الآن فصاعداً، سيعيشان تعرجات أي قصة حب تقليدية بين رجل وأخطبوط. الأخطبوط ترفع عينها من رأسها خارج وكرها لتراقب المتيّم الجالس تحت شرفتها. الأخطبوط ترتاح له قليلاً، فتذهب إلى عملها في البحث عن طعام، وتعود لتجده بانتظارها. الأخطبوط تشعر أن هذا البشري أخرق، لكنه طيب وغير مؤذ، فتمدّ إحدى مجساتها إلى يده، كأنها تقول لها أنه صار صديقها (أو تدرس ما إذا كان صالحاً للالتهام، من يدري؟). ثم.. الكاميرا تسقط فجأة من يده فتحدث دوياً تسيء الأخطبوط فهمه، فتهرب من وكرها ولا تعود إليه.. فيبدأ رحلة تحر واستقصاء يرسم خلالها خريطة كاملة للغابة (غير المبهرة للأمانة) حتى يعثر عليها، ويبدأ المحاولة الصعبة لترميم الثقة بينهما، بعدما انكسرت.

مستسلمة لقدرها على ما يبدو إزاء هذا المخلوق المزعج، أو لإعجابها بمهاراته الشبهية بمهارات مجساتها في الالتصاق، تكمل الأخطبوط حياتها يوماً بيوم، وقد سلّمت أمرها لله، فلا شيء، ولا كائن، يدوم في عالم المحيطات الوحشي هذا. ويتابع هو التصوير والتعلّم منها. فبين المشاهد التي التقطها قبل أعوام للأخطبوط، وبين الأخرى المسجلة خصيصاً للفيلم، وتراه فيها يغطس أو يمشي على الشاطىء، هناك مونولغ لا ينقطع، يدير فيه الرجل دفة مشاعرنا، ومشاعره، ومشاعر الأخطبوط المسكينة، التي لم نسمعها تنطق ولو كلمة.

تعلّم صديقنا، إذن، الكثير عن ذكاء الأخطبوط الحاد، مهاراته في التخفي، والتحايل على الفريسة أو المفترس، وهذا ما يفترض بأي فيديو في "يوتيوب" أن يعرفنا عليه بطريقة علمية، إذا كنا مهتمين فعلاً بهذا الكائن الرخوي اللطيف. لكنه نسج، في سرده المحكم، حبكة متقنة، جعل فيها تخطي الأخطبوط المصاعب، درساً له في تخطي المصاعب، وعكس في الحيوان انهزاماته وانتصاراته وتغربّه المفاجىء عن كل شيء، كتلميذ أمين لأزمة منتصف العمر. وهي دروس يمكن لأي متأمل أن يستخلصها، إذا قرر، من مراقبة وردة برية مثلاً، أو قطة، أو حتى دراجة هوائية.

الفيلم كان عن كريغ إذاً، وليس عن أنثى الأخطبوط. فهو، وحفاظاً على صيرورة الطبيعة، لم يسندها، ولو لمرة، من أحد أكتافها الثمانية، في موقف صعب من تلك المواقف التي تتعرض لها الرخويات. أي حبيب كان هذا الأناني؟ سيبرر كريغ سبب حياده بالطبع. لم يتدخل في حياتها لكنه، لأكثر من 300 يوم، غطس، وغطسنا معه، باحثين عن حيوان لم يطلق عليه إسماً.

وفي كل مرة، كنا نواجه شكلاً جديداً من أشكال التشويق، مرة حين عبرّت له عن حبها (لن أفسد الفيلم على من لم يشاهده)، ومرتين قاسيتين في هجوم قروش البيجاما عليها (أسماك مقلمة مثل البيجاما، بنظر محدود وقدرات شم جبارة، والأرجح أنها ربطت وجود البشري في مكان ما بوجود عشيقته الشهية معه)، ثم انفصالها عنه.. وصولاً إلى النهاية المتوقعة: وثائقي عن رجل زهد في الوثائقيات، يتحول حين عرضه عبر المنصة، إلى حالة عالمية قبل أن يفوز بأوسكار عن فئة لا ينتمي إليها.

اللغو كله، أعلاه، لا يعني أن الفيلم سيء أو أنه بروباغندا لها غايات دفينة، منها مثلاً التطبيع مع عالم الأخطبوط والامتناع عن تناوله مشوياً (مع صلصة الزبدة بالثوم والكزبرة والحامض). على العكس، هو فيلم مشغول بحرفية عالية، كتابة وتصويراً وموسيقى، يتفوق ببطل وبطلة وحدهما، على أفلام قامت على قصص حب ملحمية، خاصة أن البطلة الصامتة على هذا القدر من الجمال، والمهارة في الرقص والتلون. حتى أن المُشاهد رقيق القلب، ذا العينين الرطبتين، يُنصح أن يشاهده وحيداً إذا كان يخجل من دموع التأثر فرحاً أو حزناً، وعليه، في كل الأحوال أن يُبقي بقربه علبة محارم. 

مشاهدة الفيلم، لمن لا يريد أن يقرأ بين سطوره، متعة خالصة. ليس بالضرورة أن نتعلم منه أن البشر يجيدون استغلال الطبيعة أفضل استغلال لمصالهم الشخصية، أو أنهم في علاقاتهم مع حيواناتهم، الأليفة أو البرية، لا يخرجون عن أنانيتهم وإيمانهم بأن الحياة على الكوكب وُجدت لأجلهم. هذا نعرفه. الفيلم، ببساطة، رائع، وصاحباه يستحقان الأوسكار. خسارةٌ أن أنثى الأخطبوط لم تستطع المشاركة في حفلة الأوسكار لسبب سنعرفه في الفيلم، ولسبب آخر جيني، وهو أنها أخطبوط، كائنة رخوية، وهذا ما نجح العمل في أن يجعلنا ننساه منذ المشهد الأول.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها