الإثنين 2021/05/24

آخر تحديث: 19:11 (بيروت)

ماكرون إن تفوّق على المؤثرين!

الإثنين 2021/05/24
ماكرون إن تفوّق على المؤثرين!
increase حجم الخط decrease
من المعروف أن الشركات التجارية لا تتردد في الاستعانة بالمشاهير المؤثرين (influencer) للترويج لمنتجاتها بما يتماشى مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي. لكن الحال تبدل، حيث بات بالامكان تصنيف هؤلاء في خانة صناع الرأي.

خير دليل على هذا التحول، مشاركة الرئيس الفرنسي في برنامج ترفيهي من إعداد وتقديم اثنين من أشهر نجوم السوشال ميديا الفرنسيين، "ماكفلاي" و"كارليتو"، وبُثت الحلقة في قناتهما الخاصة في "يوتيوب" الأحد.

الحكاية بدأت مطلع العام الحالي عندما توجه ايمانويل ماكرون إلى ماكفلاي وكارليتو برسالة مصورة مستخدماً تقنية السيلفي، عارضاً عليهما إنجاز فيديو لتذكير الفرنسيين بضرورة الالتزام بتدابير الوقاية من فيروس كورونا وإجراءات التباعد الاجتماعي. بالمقابل، تعهد الرئيس الفرنسي للشابين بالسماح لهما بالتصوير في قصر الاليزيه إذا حصد الفيديو المطلوب انجازه عشرة ملايين مشاهدة.

قَبِل الشابان التحدي، ليأتي العمل الفني على شكل أغنية أميط عنها اللثام في 21 شباط/فبراير وبلغت العتبة المطلوبة من المشاهدات  في غضون ثلاثة أيام، ليتم الاتفاق على مشاركة ماكرون في برنامجهما الافتراضي الشهير "تحدي الحكايا".


تقوم فكرة البرنامج على استضافة شخصية عامة لتواجه الثنائي ماكفلاي - كارليتو: وبالتناوب، يسرد كل فريق حكاية أو حادثة وعلى الفريق الآخر التخمين إذا كانت صحيحة أم لا، على أن يمتثل الخاسر في الحلقة لشرط يمليه عليه الفائز.

ماكرون ادعى مثلاً علمه بقرب انتقال نجم كرة القدم الفرنسية كيليان مبابي من نادي باريس سان جرمان إلى أولمبيك مارسيليا، فخ نجح الثنائي بتجنبه. كما اختلق حادثة ثانية فحواها أن دونالد ترامب اتصل به ذات مرة عبر الخط الساخن ما استدعى استنفارا في الاليزيه، ليتبين أن الغاية من الاتصال كانت معايدة ماكرون بمناسبة عيد ميلاده، خدعة لم تنطل أيضا على ماكفلاي وكارليتو.


الحلقة انتهت بتعادل الفريقين واتُفق على تنفيذ كل جهة للشرط الذي فُرض عليها: سيضع ماكرون صورة للنجمين على مكتبه خلال مقابلته التلفزيونية المقبلة بمناسبة العيد الوطني، على أن يصعد الثنائي على متن طائرة حربية مشاركة في العرض العسكري الذي سيقام بهذه المناسبة.

الحلقة التي طال انتظارها نحو ثلاثة أشهر لامست في غضون 24 ساعة عتبة الثمانية ملايين مشاهدة، وأثارت ردود أفعال سياسية وصحافية وشعبية كانت سلبية بمعظمها. الصدى الذي خلفته لا يعود لمضمونها بل لأبعادها التي كرست تبدلا في منهجية الدعاية والخطاب السياسيين.

أجمع الرأي العام الفرنسي أن غاية ماكرون كانت استمالة الفئات الشابة (18إلى 25 عاماً) التي لم يعد يستهويها النشاط الحزبي، كما باتت منصات التواصل الاجتماعي وسيلتها المفضلة لاستقاء المعلومات ومتابعة التطورات، مبتعدة بذلك عن وسائل الإعلام التقليدية.

وتشير استطلاعات الرأي أن هذه الشريحة الاجتماعية يتملكها سخط شديد على سياسات ماكرون منذ توليه مقاليد الحكم. علاوة على ذلك، عانت هذه الشريحة وعلى نحو قاس من تبعات جائحة كورونا (صعوبات دراسية، البطالة، غياب فرص التوظيف).

انحدار شعبية ماكرون في الأوساط الشابة، من شأنها إلحاق ضرر بصورته الاعلامية بعدما دخل معترك السياسة من بوابة المرشح الشاب-الإصلاحي. كما أن إعادة بناء جسور الثقة مع تلك الفئات العمرية يوحي بتطلعه إلى المستقبل ما يتيح للرئيس الفرنسي تحسين صورته لدى باقي الشرائح العمرية.

وعليه، خلص ماكرون إلى أن استخدام الحسابات الافتراضية على النحو المعهود لم يعد يجدي نفعا وبات المطلوب ابتكار أساليب معاصرة لمخاطبة الفئات الشابة وعدم الاكتفاء بإطلاق المواقف من خلال التغريد والنشر عبر تويتر وفايسبوك.

ففي حزيران/يونيو الفائت، لجأ ماكرون لتطبيق Tik Tok ليبارك للناجحين في امتحانات الثانوية العامة، كما خص قناة Brut (وسيلة اعلامية افتراضية تعتمد على صحافيين من الشبان والشابات) بلقاء مصور في كانون الأول/ديسمبر.

لكن استضافة ماكرون في برنامج ماكفلاي-كارليتو حمل نكهة مختلفة عما سبقه، ليس لمشاركته في برنامج ترفيهي بقدر لجوئه إلى خدمات اثنين من المشاهير البعيدين عن عالم السياسة. في الواقع، تشير هذه الحلقة المصورة إلى مقاربة  ماكرون ومستشاريه لسياسته الإعلامية من زاوية مغايرة: بلورة الخطوات وفق منطق عالم الأعمال. 

بعبارة أخرى، خرج هذا الفريق من رحم مدرسة تسوق لأي برنامج أو مشروع سياسي معتمدة على ذات الأدوات المستخدمة للترويج لأي منتج، من هنا الاستعانة بشعبية المشاهير المؤثرين لتلميع الصورة الاعلامية للرئيس الفرنسي.

لكن التدقيق في المضمون يدفعنا إلى الاستنتاج أن ما يتم التسويق له هو شخص ماكرون وليس رؤية وخططا مستقبلية للبلاد.

بداية، خلت حلقة ماكفلاي-كارليتو من أي مضمون سياسي. حتى خلال مقابلته في Brut لم يسجل ماكرون أي مواقف تذكر: الغاية هي فتح جسور تواصل مع الشباب الفرنسي دون أي نقاش في العمق. على سبيل المثال: بعدما روى ماكرون قصة انتقال مبابي من ناد إلى آخر، تناول هاتفه المحمول واتصل مباشرة بالنجم الفرنسي تاركا له مهمة نفي الخبر، موقف يدغدغ دون شك مشاعر عشاق كرة القدم.

قد يعني ذلك أنه ورغم المنافسة، ما زالت وسائل الإعلام التقليدية تحتل مكانة مرموقة وتبقى الوسيلة الأنسب للترويج للرؤى وتسجيل المواقف بصحبة صحفيين مرموقين.

ولم يكن الرأي العام الفرنسي غافلاً عن استراتيجية رئيسه بدليل ردود الأفعال المستهجنة لما شاهدوه: بعضهم اعتبر أن المطلوب من الرئيس انجازات عملية وليس مشهديات فارغة المضمون، فيما رأى آخرون أن ماكرون أساء إلى مؤسسة الرئاسة. بعض الأوساط الصحفية والسياسية اتهمت رئيس الجمهورية بإفراغ الخطاب السياسي من محتواه، فيما استغرب أصحاب "النقد البناء" امتناع ماكرون عن اللجوء إلى خدمات مؤثرين مسيسين ما يتيح له الحفاظ على هيبة موقعه الرسمي.

كما لم توفر الانتقادات كلاً من ماكفلاي وكارليتو بعدما إتُهما بالسذاجة: صحيح أنهما غير مُتحزبَين ولم يغوصا في أي من ملفات الشأن العام، لكنهما كانا أداة دعائية طوعها رئيس الجمهورية وفقا لمصالحه حتى أطلقت دعابة تقول: ماكرون أثّر في المؤثرين.

كثرة الانتقادات ومضمونها الحاد، يدفعنا للتساؤل عن مدى قدرة ماكرون على ترجمة استراتيجيته الاعلامية هذه في صناديق الاقتراع خلال الانتخابات الرئاسية العام المقبل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها