الإثنين 2021/05/24

آخر تحديث: 16:32 (بيروت)

لماذا يصرّ الأسد على تقديم نفسه كقائد ديموقراطي؟

الإثنين 2021/05/24
لماذا يصرّ الأسد على تقديم نفسه كقائد ديموقراطي؟
increase حجم الخط decrease
رجل يقبّل صورة عملاقة للرئيس السوري بشار الأسد وضابط في الجيش يشرح لجنوده معنى اسم بشار وحفلات فنية صاخبة تتحدى العالم بداية من فيروس كورونا ونهاية بالعقوبات الغربية وحلقات الدبكة الرجولية والزغاريد الأنثوية وأستاذ جامعي يشرح دلالات ألوان أزياء "الأب القائد للدولة والمجتمع".. تلك جميعها ملامح من حملة "الأمل بالعمل" الخاصة برئيس النظام السوري الساعي للحصول على ولاية رئاسية رابعة، مهما كان الاستحقاق الانتخابي نفسه محسوماً سلفاً.

يبدو المشهد ككل أشبه بسيرك خارج عن السيطرة، لكن تلك الفوضوية تبقى مألوفة لكل سوري، عاش في ظل حكم عائلة الأسد للبلاد منذ سبعينيات القرن الماضي، مع تحول الانتخابات إلى مواسم قسرية من أجل تجديد البيعة لحافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار. لكن الضخ الإعلامي نفسه قد يكون مضللاً لمن لا يعرف عن سوريا شيئاً، وهو المطلوب ربما من هذه النوعية من الدعاية التي لا تنحصر على مواقع التواصل السورية، بل تنقلها مترجمة للانجليزية مجموعة من الناشطين الغربيين الموالين للنظام والمرتبطين بالكرملين مثل البريطانية فانيسا بايلي والكندية إيفا بارتليت.



ولعل المثير للسخرية هو الجدية التي يتم فيها نقل تلك المشاهد الهزلية، ما يخلق نوعية من الكوميديا غير المقصودة والتي يتفوق بها إعلام النظام على نفسه كل مرة عند إظهار الولاء للعائلة الحاكمة. ومن المسلي فعلاً مراقبة أستاذ جامعي في كلية الفنون الجميلة وهو يتحدث على الشاشة الرسمية عن الألوان الزاهية والمعاني الخفية في أزياء الأسد. عند الحديث عن اللون الأزرق مثلاً يمكن سماع عبارات كـ:"لون النور المشع الذي يعبر عن الاستقرار وعن شخصية هادئة وجديرة بالثقة وعقلانية وطموحة تدل على علو الذوق وتفهم الأمور بسهولة والتصرف بحكمة والالتزام بالوعود".



التعاطي الإعلامي الجدي لا يعبر عن استهزاء بعقول السوريين فقط. بل قد يعبر عن معنى العزلة التي تعيشها البلاد على كافة المستويات منذ عقود بما في ذلك الجانب السياسي. ويصبح مقدمو الدعاية والعاملون في الإعلام الرسمي ضمن هذا الإطار مصدقين لمعنى الديموقراطية التي يتحدثون عن وجودها في البلاد، ويعتقدون أن إيصالهم للصورة الشعبية التي تحتفي بالانتخابات كحدث وطني، جزء من عملهم في نقل الحقيقة والواقع، من دون أن يكونوا قادرين على ملامسة التفاهة التي يتحدثون عنها، على اعتبار أن الديموقراطية نفسها لا يمكن أن تتوافر في دولة شمولية مثل سوريا الأسد.

يحيل ذلك إلى وظيفة الإعلام الرسمي نفسه في البلاد، والتي تشير بدورها إلى غياب معنى الديموقراطية الحقيقية عن البلاد. فالعاملون في الإعلام الرسمي يرون أنهم "الناقل للخطاب الوطني والسياسي السوري بكل فخر" ويشكلون بالتالي جزءاً من الدولة الشمولية البوليسية ولم يكن غريباً أن يردد السوريون في شعارات الثورة السورية قبل عشر سنوات عبارات مثل: "كاذب كاذب كاذب، الإعلام السوري كاذب"، تعبيراً عن خلاف أعمق حول طبيعة الدولة السورية المرجوة، والتي يكون فيها الإعلام الرسمي ناطقاً باسم كل السوريين وليس باسم السلطة فقط، ولا يتبادل فيه المذيعون والضيوف التحية الصباحية بشعار الحملة الانتخابية لمرشح معين: "صباح الأمل بالعمل" بدلاً من "صباح الخير".



وبينما ينظر إلى الانتخابات السورية كعملية غير شرعية، لاعتبارات عديدة، فإن غياب المرشحين الآخرين عن الصورة الإعلامية يبدو متوقعاً في بلد كانت فيه الانتخابات طوال عقود عبارة عن استفتاء حول تجديد البيعة وهو المصطلح نفسه الذي يرفع في البلاد اليوم، تحديداً في المساجد التي تحشد رجال الدين وتعتبر دعم الأسد واجباً شرعياً، وبين الجنود الذين يعتبرون جزءاً محورياً من الدعاية الأسدية عموماً ويمثلون رتوشاً ضرورية لتجميل صورة الأسد كبطل حارب الإرهاب وانتصر.

وفي مقطع فيديو يظهر ضابط في الجيش السوري، على طريقة العميد سهيل الحسن، وهو يشرح المعاني الخفية لاسم بشار، وكأنه اكتشف فجأة طريقة تحويل الرصاص إلى ذهب: الباء تعني "بلدي" والشين تعني "شعبي" والألف تعني "أرضي" والراء تعني "روحي" وتمثل الكلمة الأخيرة مدخلاً لترداد الشعار الذي لا مهرب من سماعه كل مرة: "بالروح بالدم نفديك يا بشار".

وبينما يبدو الفيديو مبتكراً للوهلة الأولى، إلا أن ذاكرة أي سوري تحفل بالمشاهد المماثلة ليس فقط ضمن الجيش الذي يفرض خدمة إلزامية طويلة على السوريين الذكور، بل أيضاً في المدارس التي كانت تضم مادة التربية العسكرية وفي الجامعات التي تفرض على الطلاب خوض معسكرات تدريب عسكرية كشرط للتخرج، وفي دورات التثقيف البعثية خلال فترة المدرسة الثانوية. وفيها جميعاً توجد نسخ كربونية عن الضابط السابق تردد كلمات مشابهة.


ولعل مشهد الرجل الطاعن في السن وهو يقبّل صورة بشار في أحد التجمعات الانتخابية، يفسر تلك النوعية من التصرفات المبالغ فيها التي يقوم بها السوريون لإظهار ولائهم، حيث تعتبر المشاركة في هذه التجمعات الانتخابية إلزامية تحت طائلة العقوبة في حال التغيب عن الحضور. ويصبح إظهار الولاء ضرورياً لنزع الشكوك بوجود مشاعر خفية من جهة أو لتشجيع الآخرين على إظهار ولائهم من جهة ثانية، لأن العقوبات نفسها تطال المنظمين في حال عدم تحقيق قدر عال من المشاركة الإيجابية.



في العادة يتم جمع الطلاب من المدارس والجامعات والموظفين من المؤسسات الرسمية فيما تشرف جهات أخرى كالشُّعب الحزبية وأئمة المساجد والمنظمات البعثية المختلفة على تنظيم الحشود في المدن المختلفة. ويتم هنا تلقين الأفراد ما يقولونه وتحديد من يجب أن يبرز على الإعلام أو من يتم تصويره. كما يتم تحديد الملابس ونوعية المشاركات، ويتم التشديد على فكرة الملابس التراثية للنساء بشكل خاص، كما يظهر في فيديوهات من مدينة النبك القلمونية ترتدي فيها النساء ملابس أشبه بأزياء رديئة من مسلسل فانتازيا تاريخية، وهن يلقين بالزغاريد وتسمع حولهن أصوات تلقنهن التعليمات الرسمية.



وفي السنوات الماضية تم تسريب عدد من التسجيلات الصوتية لـ"رفاق بعثيين" وهم يلقون التعليمات الآتية من جهات استخباراتية تدعو تنظيم مسيرات عفوية وتجمعات شعبية داعمة للنظام، مثلما حصل في السويداء العام 2020 بعد التظاهرات المعارضة للنظام حينها. وإن كانت التسريبات المماثلة تغيب اليوم، فإن التعميمات نفسها تبدو أكثر علنية مع الدعوات التي تنشرها وزارة الأوقاف التابعة للنظام، والحاصلة على نفوذ متنام في الداخل السوري خلال السنوات الأخيرة، وكأنها لا "تخشى في الحق لومة لائم" كشعار زائف تتبناه ضمنياً في قيادتها للحملة الانتخابية للأسد.

وإن كانت بعض الدول الغربية التي عانت من مشاكل تخص العزوف عن المشاركة في الانتخابات بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة، تشهد نقاشات حول معنى التصويت بين كونه حقاً يكفله السيستم الديموقراطي للأفراد أم واجباً يجب على الأفراد القيام به لحماية ذلك السيستم، فإن ذلك كله يختفي في سوريا الأسد بطبيعة الحال، ويصبح إظهار المشاركة بشكل علني هو المطلوب لخلق الوهم وتصديقه وتكراره كل سبع سنوات، ولا يعتبر ذلك عبثياً كما أنه لا يقتصر على سوريا بل يمتد إلى العديد من الدول الشمولية الأخرى التي تحرص على تقديم نفسها بصورة ديموقراطية.



ويعبر ذلك عن ازدواجية تخص مسألة الشرعية لا تعترف بها الأنظمة الشمولية علناً رغم إدراكها لها. فمن جهة هنالك إدراك بلا شك إلى أن النظام بحد نفسه هو نظام ديكتاتوري ومن جهة ثانية هنالك إدراك إلى أن الديموقراطية حاجة ملحة يتطلع إليها جميع سكان الأرض على اعتبار عدم وجود سياسي أكثر كفاءة حتى الآن. وفيما وفر الإنترنت حيزاً يقارن فيه الأفراد حياتهم بحياة نظرائهم في الدول الديموقراطية، شكل ذلك مزيداً من الخطر على الدكتاتوريين المعاصرين، الذين باتوا يخشون الانتفاضات الشعبية ضدهم.

وفي حالة الأسد في سوريا يصبح الأمر أكثر وضوحاً لأن الأسد كطاغية مستبد عاش عشر سنوات كاملة من الثورة الشعبية ضده والتي كادت تطيحه لولا الحلفاء الخارجيون، إيران وروسيا، الذين ساعدوه على البقاء في الحكم بثمن باهظ على المستويين الإنساني والسياسي. ولم يكن من الغريب بالتالي أن تعقد أول انتخابات تعددية في البلاد العام 2014 فقط. قبل ذلك كان المشهد الانتخابي عبارة عن استفتاء لا أكثر يحتفل فيه الأسد الأب أو الأسد الابن بسيطرته على البلاد ورؤية جموع "العبيد" الذين يهتفون باسمه في الساحات العامة.

لم تكن حينها الديموقراطية قد تحولت، ضمن أدبيات النظام، إلى علامة تجارية يلوح بها في وجه العالم ووجه شعبه، بل كان هنالك شعور بالطمأنينة ضمن النظام نفسه بأنه مختلف عن محيطه المضطرب ولم يكن الترويج بالديموقراطية المحلية واسع الانتشار مقابل الترويج بمحبة الشعب لرئيسه. وكانت الثورة السورية بالتالي بمثابة صفعة موجعة استيقظ بها النظام على الواقع الذي خلقه وأنكره طوال عقود وزاد من وضعه سوءاً بدل الامتثال لمطالب الشعب السوري التي لم تتجاوز المطالبة بإصلاحات سياسية بسيطة من دون أن تنادي حتى بإسقاط النظام حتى مرحلة متأخرة نسبياً مقارنة بمشاهد الربيع العربي آنذاك في تونس ومصر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها