السبت 2021/05/22

آخر تحديث: 13:05 (بيروت)

غزة تقسم فرنسا على ذاتها

السبت 2021/05/22
غزة تقسم فرنسا على ذاتها
من التظاهرات المتحدية لقرار المنع والمتضامنة مع الفلسطينيين في باريس، وانتهت بمواجهات مع الشرطة (غيتي)
increase حجم الخط decrease

دائما ما تتوجه الانظار إلى باريس عندما ينفجر الوضع في الشرق الأوسط. ليس لقدرتها على التأثير في مجريات الأحداث، بل أملاً في موقف رسمي داعم للضحية، إذ يُنظر لفرنسا كموطن لحقوق الإنسان. لكن الاصطفاف الرسمي الفرنسي خيب آمال الفلسطينين ومناصريهم طوال الأسابيع الأخيرة.

بداية، بدا ايمانويل ماكرون غير مكترث لما يجري، وحساباته الافتراضية تشهد بذلك: تجاهل تماما مأساة العائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح، بخلاف تضامنه مع ضحايا حادث جبل ميرون. لكن انحيازه لإسرائيل تجسد في بيان الاليزيه الذي لم يذكر الاعتداءات الإسرائيلية، فيما لم يوفر انتقاداته للفلسطينيين وصواريخهم.

لكن الصاعقة التي وقعت على رأس الفرنسيين تسبب بها وزير الداخلية جيرالد دارمانان، بعدما غرد في 13 أيار/مايو معلناً رفضه منح ترخيص لمظاهرة باريسية مساندة للفلسطينيين بذريعة "الحفاظ على النظام العام" والحؤول دون تكرار ما جرى في العام 2014 إبان الحرب على غزة. موقف قوبل بترحيب تعدى الأوساط اليمينية: عمدة باريس ومرشحة الحزب الاشتراكي، المحتملة لرئاسة الجمهورية، وصفته بـ"القرار الحكيم".

في المقابل، استهجنت أحزاب وجمعيات وشخصيات، تدور بمعظمها في فلك اليسار، استهجنت بشدة الخطوة الرسمية: صحيح أن تنكر رؤساء فرنسا المتعاقبين لقضايا محقة، بات مألوفاً، لكن "المس بالمقدسات"، أي حق التظاهر وحرية التعبير، استفز الشارع الفرنسي الذي لم يتردد في تحدي قرار دارمانان.

ومثلما كلف هذا الموقف الحكومة الفرنسية الكثير من الانتقادات، كان فرصة للتهكم عليها خصوصاً بعد تغريدة لنتنياهو خصصها لشكر مجموعة الدول المساندة لبلاده. تغريدة غاب عنها علم فرنسا، ما دفع بمجموعة من رواد "تويتر" لإعادة نشرها على سبيل السخرية من ماكرون الذي لم يجنِ ثمار تأييده لإسرائيل.

والانقسام الداخلي تجلى على وجه الخصوص في التغطية الصحافية، إذ لم تكن الصحف الفرنسية على الموجة نفسها.

صحيفة Le Figaro انحازت بوضوح للجانب الإسرائيلي، ساعية إلى تبرير الموقف الرسمي الفرنسي بترسانة من الحجج. الصحيفة ذات التوجه اليميني، سوّقت لنظرية منع "استيراد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أرض فرنسا" معتبرة أن ما صدر عن دارمانان ليس قراراً سياسياً، بل له مسوغاته القانونية. كما ذهبت أبعد من ذلك، شاهرة تهمة معاداة السامية: فمن وجهة نظر Le Figaro، يشهد العالم في الوقت الراهن نحو 38 نزاعاً، فلماذا التركيز على هذه القضية بالذات؟ ولماذا "التهجم" على اسرائيل "الدولة الديموقراطية" وسط تجاهلٍ لدول أخرى مثل كوريا الشمالية؟ فبحسب الصحيفة، معاداة الصهيونية ليست إلا ستاراً لمعاداة السامية من جانب اليسار الفرنسي.

وحتى بعد اتفاق وقف إطلاق النار، لم تتوقف Le Figaro عن التصويب على الجانب الفلسطيني حين أشارت إلى قوة "حماس" العسكرية. كلام حمل في طياته قرعاً "لناقوس خطر لم ينكفئ بعد". كما خصصت Le Figaro مقالاً آخر تناول الاتفاقيات المبرمة حديثاً بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، معتبرة أن ما جرى مؤخراً لن يجهض هذا المسار. هي محاولة منها لشيطنة الخيار العسكري الفلسطيني، والإيحاء باستعداد إسرائيل الدائم لإبرام السلام.

وحتى عندما غطت الأحداث على نحو خبري، حادت Le Figaro عن الموضوعية: ففي معرض استعادتها لمسار الأحداث منذ اندلاعها وحتى وقف إطلاق النار، لم تأتِ على ذكر حي الشيخ جراح، لتصور أن جوهر الأزمة يتلخص في صواريخ "حماس". وتالياً، لم يكن مستغرباً احتضان هذه الصحيفة لبيان حمل توقيع 76 شخصية عامة فرنسية، عنوانه "ما يهدد إسرائيل يهددنا أيضاً" ونشر في 18 أيار.

لكن صحفاً أخرى انحازت إلى الجانب الفلسطيني، لا سيما Le Monde اليسارية التي ركزت في تغطيتها على خلفيات تلك المواجهة العسكرية. في أحد مقالاتها، وصفت الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني "بالصراع المنسي" بعدما اختارت القوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة، تجاهل ما يعانيه الفلسطينيون واستبدال الحلول السياسية، المفترض بلورتها، بمشاريع تنموية لتحسين مستوى المعيشة. وفي عددها الصادر في 15 أيار اعتبرت الصحيفة في افتتاحيتها أن ما جرى كشف عجز المجتمع الدولي، لا سيما أن الرئيس الأميركي لم يحدث بعد القطيعة المرجوة مع إرث ترامب في ما يخص القضية الفلسطينية، ما سيجبره على الاهتمام بهذا الملف "رغماً عنه".

ولم تكن Le Monde الوحيدة التي عالجت القضية في إطارها الدولي، بل كذلك فعلت صحف أخرى مثل L'express وL'humanité. وركزت جميعها على نقطتين اثنتين في هذا السياق: الانكفاء الأميركي وشلل الدبلوماسية الأوروبية.

الغاية من معالجة تلك المسائل هو التشديد على ضرورة مضاعفة الجهود لحل هذا النزاع، فإتفاق وقف إطلاق النار تم وفق صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، بحسب Le Monde، ما يوحي بإمكانية تجدد المواجهات العسكرية.

صحيفة Valeurs Actuelles، تماهت مع Le Figaro في رفض استيراد النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي وهو ما تجلى في مقالة جان مسيحة، القيادي السابق في حزب التجمع الوطني وذي الأصول المصرية. لكن ميوله اليمينية المتطرفة تدفعنا إلى مقاربة ما أطلقه من مواقف، بصورة مغايرة: مسيحة رأى في الأحداث الفلسطينية الأخيرة فرصة لبث مزيد من الإسلاموفوبيا والكراهية في الشارع الفرنسي، مذكراً بمساندة أحزاب اليسار والمهاجرين العرب المسلمين، للفلسطينيين، "منوهاً" في الوقت ذاته بدور المسيحيين واليهود في تشييد "الأمة الفرنسية". بالتوازي، أثارت الصحيفة المذكورة ما شهدته التظاهرات الباريسية الداعمة للفلسطينيين من هتافات دينية. بوضوح تام، سعى اليمين المتطرف الفرنسي إلى توظيف المأساة الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية داخلية.

وردّ موقع Middle East Eye الإخباري، على ما يتم تسويقه حول ضرورة منع "استيراد النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي". الموقع، بنسخته الفرنسية، اعتبر أن كل من يحمل لواء هذه القضية منحاز حكماً إلى الجانب الإسرائيلي، إذ يتم التركيز على ما تتعرض له اسرائيل من "تهديدات أمنية"، من دون أي ذِكر لما ترتكبه تل أبيب من اعتداءات، لا سيما على صعيد بناء المستوطنات. وفي هذا السياق، استعرض كاتب المقال جانباً من تاريخ العلاقات الإسرائيلية-الفرنسية-الأوروبية، للإشارة إلى تماهي الحركة الصهيونية مع الأيديولوجيا الاستعمارية الأوروبية.

من جهته سعى موقع Mediapart إلى تفنيد الموقف الرسمي الفرنسي وتبيان أسباب الانحياز لإسرائيل: بداية، انكفأت فرنسا عن أداء دور وسيط في هذا الصراع، حالها حال باقي الدبلوماسيات التي فوضت الأمر للولايات المتحدة وفقا لـMediapart، يضاف إليها المساعي الإسرائيلية لقطع  الطريق على أي وساطة غير أميركية. وتوسعت Mediapart لتستعرض أيضاً العوامل الداخلية المهيئة لهذا المناخ، حيث نجد في المقام الأول، التهديدات الأمنية المتربصة بالبلاد، وما ينتج عنها من تعميم ومغالطات حول الإسلام والمسلمين والإرهاب. أما الأهم، فيبقى الحذر الفرنسي المبالغ فيه، والحساسية المفرطة في التعامل مع كل ما يرتبط بالمسألة اليهودية، نظراً لإرث فرنسا الأسود في هذا المجال، إرث لا يزال يرخي بظلاله على الدولة والمجتمع.

وبخصوص اللوبي الصهيوني ذي النفوذ الواسع في الداخل الفرنسي، أوضح الموقع الاستقصائي أن هذه المؤسسات تربطها علاقات وثيقة بحزب الليكود الرافض لأي تسوية. وختم الموقع بمقاربة المسألة من زاوية النهج الماكروني: فرئيس البلاد اختار في هذا السياق "سياسة عاطفية" قصيرة الأمد، انصب فيها اهتمامه على صورته الإعلامية. ما ألمح إليه الموقع، هو اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة التي ينوي ماكرون خوضها للظفر بولاية ثانية. بعد كل ما ذكر، ليس مستغرباً افتقاد ماكرون لأي رؤية استراتيجية، وفقاً لـMediapart.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها