الأربعاء 2021/05/12

آخر تحديث: 13:53 (بيروت)

منظومة الدراما اللبنانية.. خصومة مع الرواية المحلية (2/2)

الأربعاء 2021/05/12
منظومة الدراما اللبنانية.. خصومة مع الرواية المحلية (2/2)
قد يسبق مشهداً ما، تعنيف فنان لمصفّف الشعر، أو إهانة نجم لممثل، ثم يمرّ في الشاشة مُفعماً بالرومانسية والأخلاق
increase حجم الخط decrease
بعد حلقة أولى بعنوان "منظومة الدراما اللبنانية.. رُفضت أعمال شباب لأنها ذكية!"، هنا حلقة ثانية وأخيرة لمزيد من استكشاف أسباب نجاح الدراما اللبنانية وخوائها..

ما هي معايير نجاح المسلسلات ورواجها حالياً؟ 
في جولة متمعنة على مجمل مواقع السوشال ميديا، يتبيّن أن آراء المشاهدين، صائبة كانت أم خائبة، تؤخذ بالكمية لا بالنوعية لخدمة "المعيار الأول" للنجاح، ألا وهو "التريند" (الأكثر تداولاً عبر المنصات) والذي يصب مباشرة في صميم الـ"رايتينغ" (العلامة أو الدرجة).

و"التريند" معيار متلوّن وزئبقي لا يحسم فوز مسلسل بعينه، فإذا كان المسلسل "أ" تراندينغ في "تويتر"، يكون المسلسل "ب" الأكثر تداولاً عبر منصة "شاهد"، وهكذا... وإذا حلّق المسلسل "ج" يوم الاثنين وهبط بقية أيام الأسبوع، يحتسب له أنصاره يوم التحليق فقط. يحصل هذا، فيما المواقع الإعلامية والسوشال ميديا والمؤثرين، كلها تذكي التوهّمات، عندما تُعلن أن "التراندينغ لا يعكس واقع المشاهدة".

وبناء عليه، يستنفر المؤثّرون والذباب والصحافة ويعدّون العدّة، مرة تلو الأخرى، لتوجيه الرأي العام وزيادة عدد المشاهدين، ربما من بين المتقاعسين عن المشاركة في همروجة التصويت والتعليق والرد، والرد على الرد، وعبر كل المنصات المتاحة، ويستنبطون مزيداً من الهاشتاغات. وهو ما يزيد بالفعل عدد المشاركين في "التصويت". وهذه الزيادة هي أحد الأسباب الذي تشرَّع لأجله قنوات فرجة إضافية مثل "يوتيوب" و"شاهد" وغيرهما لتأمين مشاركة أوسع.

أما المشاهدون فلا يكترثون فعلاً لنتيجة السباق، ففي نهاية المطاف يقولون: "إن لم يأتِ ظالم تأتي جربوعة"، على قول زياد الرحباني في "نزل السرور". فهم سيشاهدون لاحقاً كل الأعمال التي فاتتهم مهما كان التراندينيع وهاشتاغاته: أولاً، لأن الوقت (شهر رمضان) لا يكفي لمشاهدة كل الأعمال. وثانياً، لأنهم لا يؤمنون بنتائج التصويت وكل ما يتعلّق بالاقتراع والانتخابات السياسية المعروفة نتائجها "سلفاً"، كما بانتخاب المسلسلات. وأخيراً، هم ينشدون التسلية فقط. غير أن الأطراف التي تكترث فعلياً لتلك النتائج هي الإنتاج والمحطة، لأنهما يثقّلان الأرباح والخسائر التي بنتيجتها تُحسم أمور كثيرة، مثل اتخاذ القرار بجزء جديد أو مسلسل جديد أو إجهاض عمل، أو بقاء أو تسريح طاقم العمل. وتحصل محاسبة الطاقم لذر الرماد في العيون، تماماً مثلما يحاسَب "معلّم التلحيم" في جريمة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020.

فشل بناء ثقافة الترفيه
والحق أن العاملين في الدراما ليسوا الأسباب الفعلية لفشل أي عمل متلفز. الجهتان المسؤولتان أولاً وأخيراً عن الفشل، وخصوصاً في بناء ثقافة الترفيه وصناعته في لبنان، هما المحطة والإنتاج، فضلاً عن وزارتي الثقافة والإعلام. فقياساً على الشأن العام، هاتان هما بمثابة السلطة العليا والسلطة التنفيذية. والمسؤولون في كليهما يشبهون الحكّام وأصحاب النفوذ في الجشع والغطرسة والظلم والتفريق وزرع الشقاق وتوخي الكسب السريع والاستقواء والسيطرة والفساد الأخلاقي. إلاّ أن أهل منظومة الدراما يبدون أشد مكراً وفتكاً بالعاملين فيها، مما هم عليه أهل السلطة السياسية، نظراً إلى صعوبة إثبات الارتكابات في الكواليس بسبب سلوك غض الطرف والسكوت المفاجئ - عمّا حصل/يحصل - الذي يخيّم على العاملين.

وما يطفو على الشاشة لا يعبّر بتاتاً عمّا يمكن أن يكون قد حصل خلال تنفيذ العمل من تعدّيات أخلاقية واحتقار وتقصير في دفع المستحقات أو عدم الدفع وتهديدات مبطّنة وأكل حقوق... وعند محاولة كشف الحقائق، يجري ستر الارتكابات بالأمزجة والنوايا والقال والقيل وسهولة الحصول على ذرائع لتبرئة الفاعلين الحقيقيين. إن ما يظهر في الشاشة، قد يكون سبقه تعنيف يوجّهه فنان/ة لمصفّف/ة الشعر أو إهانة نجم/ة لممثل/ة… ثم يمرّ المشهد التلفزيوني مَجْليّاً ناصعاً، مُفعماً بالرومانسية وقمّةً في الأخلاق: كان يمكن أن يكون المشهد بالجودة الفنية نفسها من دون إساءات في الكواليس. وإذا كان موضوع الإشكالية أنثى (نجمة، ممثلة، كومبارس، مصفّفة شعر، مسؤولة أزياء…) يصبح الأمر أفظع ويلجأون إلى التشهير. وللأسف، تساهم التربية المجتمعية الذكورية في إلصاق الذنب بـ"الضحية الأنثى" وطي القضية.

"إحفظ رأسك"
تعود حالة الفوضى والفساد وتفريخ مواقع النفوذ في الدراما اللبنانية، إلى تسلّط التلفزيونات وشركات الإنتاج، وغياب دور النقابات وقوانين المساءلة والمحاسبة، فضلاً عن غياب التقييم الجاد وفقاً لما هو أبعد من الكسب المادي، وهذا في المبدأ دور وزارتي الثقافة والإعلام. وقد يسأل سائل: ما نفع النقد والتقييم ومحاولة إعادة الأمور إلى نصابها في بلد منهار بشرائحه كافة؟ الإجابة صعبة جداً. لعلّ فيها أملاً في النهوض من الإنهيار، أو في الوصول إلى حال أفضل. فالمشهد العام للدراما التلفزيونية ليس مختلفاً عن بقية المشاهد في البلد. والبحث جارٍ في طيّاته عن دور ريادي غاب منذ زمن، مثلما غابت ريادة لبنان في كل المجالات من زمان أيضاً. يجب الاعتراف بذلك والاقتناع به لكي ينكشف طريق، أي طريق، نحو الخلاص.

غابة فنية
عالم الدراما اللبنانية أشبه بـ"غابة فنّية"، كل قاطنيها ضعفاء ولا أسَدَ مستداماً فيها. بعضهم أقوى من الآخر، لكنهم جميعاً معرّضون لخطر قد ينتج عن دمار الهيكل الكبير. وشرط النجاة في هذه الغابة، التي توحي بأنها نابضة بالحياة وجميلة وبأنها آخر المعاقل المُدِرّة للأموال والاسترزاق، هو التقيّد بمبدأين: "احفظ رأسك" و"لا تقارع الكبار وإلاّ بتطلع فيك يا معتّر".

ومن أولى جرائر تطبيق هذين المبدأين، طأطأة الرأس عند سماع حديث ينتقد مخرجاً مثلاً أو ممثلة، تتبعها إشاحة الوجه نحو ممحاة زهرية اللون على مكتب. "نريد أن نعيش"، يقول كثر منهم، علناً وسرّاً. وتنسحب الجرائر على مكوّنات الدراما التلفزيونية كلها، فيستحيل تقديم نص أو فكرة لا تحظى برضا المحطة (أو شركة الإنتاج)، كأن يقدّم أحدهم سيناريو مستوحىً من رواية "شريد المنازل" للروائي جبور الدويهي التي تشبه اللبنانيين وواقعهم وتحترم عقول المشاهدين... قَطْعاً مرفوض!

وتحت سيادة المحطة والإنتاج، يُفرَض النجم والنجمة حتى قبل كتابة الأدوار، ويُوعَد المشاهدون بهما مع كوكبة من الممثلين الآخرين. وينصرف المؤلف (مع شبكة أقلامه) إلى الكتابة، فيلتزم بالقيود ويبحث عن الاقتباس والتوليف لأنهما أسهل بكثير من تأليف نص جديد، فكم بالأحرى من اقتباس رواية مثل "شريد المنازل"! أو "سكان الصور" لمحمد أبي سمرا!

دراما غريبة عن لبنان
ويجول المؤلف مع فريقه على الأعمال التركية والمكسيكية ويعرّجون على "نتفليكس" ومثيلاتها، لكي يأتوا أخيراً بمحتوى لا يشبه لبنان ولا أغنياءه ولا فقراءه ولا قضاياهم بالطبع. وجرت العادة أن يقدّم المؤلف سيناريوهاته، وللمحطة والإنتاج الكلمة الفصل فيها، وأحياناً كثيرة يطلبون تعديلات. وهناك منتجون ومخرجون ينجحون في الإفلات من هذه الحلقة المفرغة، لصنع أعمال قريبة من الواقع تنطوي على أبحاث ومعلومات حول قضايا إنسانية، ويُشهد للمحطات المتسيّدة نفسها أنها تقبل بعرض تلك الأعمال... يحدث ذلك كغيمة عابرة.

وبعد أن يكتمل فريق التمثيل الذي يختاره المؤلف و/أو المحطة، من دون إجراء كاستينغ، توزّع الأدوار ويحصل الممثلون على السيناريوهات. يفضّلون ألا يعترضوا إذا لم تعجبهم. وقد يحدث أحياناً أن يطلبوا من المؤلف تغيير جملة أو كلمة، بينما المطلوب هو البدء بمناقشة المؤلف لفهم النص ومآل القصة وتحليل الشخصيات، قبل الشروع في التنفيذ. أما الصحافيون، خصوصاً الصُّفر منهم، فيخضعون أيضاً وبقوّة لـ"نريد أن نعيش"، فيوزّعون مؤاخاتهم على أهل الفن والشهرة، مثلما يؤاخي أمثالهم في عالم السياسة أهل الحكم.

لعلّ الوقت هو العنصر الجوهري الذي لا يمنحه فريق الإنتاج للعاملين. ويكون محظوظاً كل من يجد وقتاً كافياً للتنعّم بقراءة دوره والتفكير فيه ملياً وسط انشغالاته اليومية. وهناك فلتة الشوط: ممثل/ة يلمع في دوره في شكل مفاجئ (والمفاجأة هنا في غير مكانها، لأن من واجب أي ممثل أن يؤدي دوره كما يجب). على أي حال، تنهال عليه التهاني والتبريكات وتُعقد عليه الآمال في أن يصبح نجماً في المستقبل. فيحلم بذلك وهذا حقّه الطبيعي. يحلم بذلك كمن يشتري ورقة يانصيب رابحة (؟) ليتذكّر بعد حين أنه أيضاً "نريد أن نعيش"، فيفتر حلمه أو يستنهض نفسه. أما حال التقنيين فحدّث ولا حرج، فهُم أيضاً من جماعة "نريد أن نعيش"، وهؤلاء في السر أكثر مما هم العلن.

هاهاهاهاهاها "شريد المنازل"؟ من أين أتتك هذه الفكرة يا ذكي!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها