الإثنين 2021/05/10

آخر تحديث: 17:52 (بيروت)

منظومة الدراما اللبنانية.. رُفضت أعمال شباب لأنها "ذكية"! (1/2)

الإثنين 2021/05/10
منظومة الدراما اللبنانية.. رُفضت أعمال شباب لأنها "ذكية"! (1/2)
ماذا لو طُلِب من زياد الرحباني مثلاً كتابة مسلسل؟
increase حجم الخط decrease
من بين كل أعمال الروائيين اللبنانيين، قدامى وجدد، لم تُعتمد رواية كأساس لسيناريو مسلسل تلفزيوني ذي قيمة وارتباط وثيق بواقع البلد ويشبه ناسه، ما خلا "الرغيف" لتوفيق يوسف عوّاد، فضلاً عن قصص لسهيل ادريس وميخائيل نعيمة وغيرهما ضمّها مسلسل واحد من 13 حلقة، حلقة لكل قصة.

لم يُسجّل لمسلسل لبناني، منذ بدأ التلفزيون في 1959، أن ضم شخصيات من السوريين أو المصريين (المقيمين في لبنان) أو الخليجيين (بعيداً من السخرية المُقرفة)، أو الفلسطينيين أو الأكراد أو الأفارقة أو الإيرانيين أو الغربيين... بينما هي (أي الشخصيات) ساعية في يومياتها ضمن النسيج الفسيفسائي الذي يشكّله وجودها فيه. ولعلّ في تركيب هذا البلد أفضل تمرين له على تقديم معالجات فنّية وأدبية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية لقضايا الهوية والانصهار والتنابذ والهجرة، خدمة للعالم. ثراء لبنان بأجناس ناسه يذهب، لئلاّ نقول ذهب، هباء منثوراً.

لم يُطلب من زياد الرحباني، مثلاً، كتابة سيناريو لمسلسل، ولا من غيره من الشباب الذين رُفضت لهم محاولات كثيرة بذريعة أنها "أعمال ذكية".. هكذا قيل فعلاً لمتحمّس أراد أن يجد لنفسه عملاً في منظومة الدراما!

وباستثناء حفنة أعمال، لم تُقْدِم شركة إنتاج أو محطة لبنانية على المغامرة بعمل خارج عن المألوف، مع أن المغامرة أساس التجارة الناجحة (خير مثال على هذا النوع من المغامرات، مسيرة مسلسل "ضيعة ضايعة"، السوري من إنتاج خليجي، إلى الشاشة).

لا داعي للمنافسة في الدراما، فهي تراكم ثقافي ومعرفي ومهني وحِرَفي. وأعمالها كالكُتُب تشكّل معاً مكتبةً (أو سوبرماركت بمنطق التاجر)، رفوفها غنيّة وشهية. يختار منها المتفرّج (أو الزبون) العمل (أو السلعة) الذي يريده. ثم يكرر زيارته لها لكي يشاهد (أو يستهلِك) إنتاجات أخرى، إنتاجات غير تلك التي جرت محاولات حثيثة، أثناء السباق المحموم الواهم، لدفعه إلى تفضيلها. من هنا يبدأ نقد الدراما اللبنانية.

…سابقاً
ما هي الوسيلة التي كانت تُستخدم، في بدايات التلفزيون في ستينيات القرن العشرين وحتى ثمانينياته، للتحقق من أن مسلسلاً أو برنامجاً رائجٌ وناجح؟

في البدايات، لم تكن أجهزة التلفزيون منتشرة في كل البيوت. يجتمع الناس عند الجار المِضياف صاحب التلفزيون في مواعيد نشرات الأخبار والمسلسلات، بينما كان الجار البخيل يشغّل جهازه ويرفع الصوت نكاية بأهل الحي الذين لا يبقى لديهم سوى التنصّت على البرامج، والإكثار من "اسكتوا يا اولاد، نريد أن نسمع".

مؤشر بسيط جداً إلى انشداد المشاهدين إلى البرامج آنذاك، مثل أعمال أبو سليم الطبل وفرقته التي كانت تُرتجل في الاستديو أثناء نقلها مباشرة على الهواء، وهو ما حدث في الواقع للفنان الراحل محمود مبسوط، ممثل شخصية "فهمان"، حين رفض أحدهم في بيروت تأجيره منزلاً لأنه "محتال"، كما ظنّ، جرّاء الخلط بين الممثل ودوره. وبعد وقت طويل من الانقطاع عن الشاشة، برع مبسوط كممثل تراجيدي في فيلم "ناجي العلي"، قبل أن تحتال عليه المنيّة وتوافيه. ومثله كثر: إيلي صنيفر، جوزيف نانو، علي دياب، سيلفانا بدرخان، ألين تابت، فريال كريم، عبدالله الحمصي، يوسف فخري، ماجد أفيوني، مادونا غازي، مارسيل مارينا، حسن علاء الدين، نبيه أبو الحسن، أنطوان كرباج، فيليب عقيقي، أحمد الزين، رضا خوري، صلاح تيزاني، الياس رزق، ميراي معلوف (يكفي! وإلاّ احتلت الأسماء المقال). كثر وكثيرات تركوا وتركن بصمات قوية، من دون بوتوكس ولا ذباب إلكتروني ولا منافسة.

وفضلاً عن عدد الإعلانات في كل حلقة، وهو المعيار الأهم للنجاح تجارياً، هناك الكتّاب والمُخرجون والممثلون، إضافة إلى تكهّنات المشاهدين بمآل العمل، لكنها لم تدخل في أجهزة تحلّلها بدقة ومنهجية لتشكّل "تراندينغ" و"رايتينغ"، كحالنا اليوم.

المنافسة!
لا ضرورة لتقييم الدراما التلفزيونية والعاملين فيها، فهي في الحقيقة ليست ضمن سباق، بل وُضعت فيه عمداً لأسباب تتعلّق بالكسب المادي لأصحاب النفوذ. فهل فادي وعبدو وكارمن وبديع ورندا وكارول... يتنافسون فعلاً؟ هم وهن يؤدّون أدواراً آملين أن ينجحوا في تجسيدها على أكمل وجه، لكي يساهم نجاحهم في وصول مضمون العمل إلى المشاهدين، وطمعاً في استمرارهم في مهنتهم التي لا مجال فيها للفشل، علماً أن الفشل قد يصيب ممثلاً بارعاً لأسباب لا تتعلّق بشطارته.

في عالم التمثيل، يكفي أن يؤدّي كلٌّ دوره في شكل مقنع (وهنا تكمن الصعوبة) ضمن توازن دقيق في التعبير عن المشاعر والمواقف، لكي تتجلّى الشخصيات وتتضح علاقات بعضها ببعض فيحيا العمل.

مثالٌ بسيط، الأرجح أنه لم يُلفت الإنتباه: في أحد مواسم "الهيبة"، كان شاهين (الدور الذي أدّاه عبدو شاهين) جالساً مسترخياً وراء مقود سيارته ينتظر صديقه، واللقطة صريحة ثابتة. الصديق لم يكن في الصورة، لكن المشاهدين استطاعوا أن يتخيّلوه قادماً بفضل عيني شاهين اللتين رافقتا الصديق حتى ظهر في الصورة وصعد إلى المركبة. هذا هو لبّ التمثيل - كشف المستور - لا أكثر ولا أقل. يا ترى في تلك اللحظة، مع من كان يتنافس عبدو شاهين الممثل؟ ليس مع أحد. كان يؤدي دوره في شكل مقنع… جداً.



هذا المقال المتسلسل هو نقل لمشاهدات ومشاركات ومتابعات خاصة ومجالس (وهذه بالأمانات)، من دون إسناد حسّي لحالات وأوضاع وتصرّفات محدّدة تنخر هذا القطاع. والمشاكل التي يواجهها أهل هذا الكار مع "منظومتهم" كثيرة ومتشعّبة، هم يعرفونها حق المعرفة ويعانونها ويعرفون أن أسباب الإقصاء تتربّص بهم عند كل مفترق ومع التحضير لكل جزء أو مسلسل. وهي لا تختلف عن مشاكل المواطنين مع حكّامهم. لذا، عليهم جميعاً حلّها بأيديهم.

والسباق الذي انطلق بين المسلسلات وأبطالها وفرق إنتاجها، منذ غزو السوشال ميديا، هو سباق مفتعل، هدفه التمرّس في سَوق الجماهير من خلال التلاعب بآرائهم، لكن ليس بهدف جعلهم يغيّرون آراءهم لترجيح الكفّة لمصلحة أعمال معيّنة أكثر من أعمال أخرى، إنما هدفه إلغاء قيمة الرأي وتأثيره من أساسها. زيارة إلى مواقع بعض المؤثرين تكشف تشابك الآراء وتضاربها وتفضيلات المشاهدين التي لا يلحظها الإعلام أو الذباب الطنّان، فتذهب سدىً. ويكون المشاهد - المعلِّق هدر وقتاً في ما يعتقده مساهمة منه في التحسين.

وعلى رغم افتعال السباق، تقيَّم المسلسلات وتُمنح علامات حتى قبل أن تُبَث عبر الشاشات ويراها المشاهدون، وبعضها قبل أن يبدأ التصوير أو الكتابة. وفي الواقع، يبدأ تقييم الجزء الجديد لموسم مقبل منذ أن ينطلق الترويج له، وأثناء عرض حلقات الجزء الحالي في الموسم الجاري. وأما المسلسل الجديد فيبدأ أيضاً تقييمه منذ مرحلة إعداده وتحضيره.

في الحالتين، يستعدّ عالم الصحافة لاستقبال المعلومات حول المستجدات ذات الصلة. ويردّها الى الجمهور المتعطش للقال والقيل وأخبار المشاهير، مُسنَدةً بتصريحات أصحاب العلاقة. وتستمر التصريحات والتسريبات والإشاعات إلى ما بعد انتهاء الموسم اليتيم لثمار الدراما الطازجة، حين يجترّ الجمهور المسلسلات المُعادة وقد صارت بائتة. وهنا، يُستعاد التساؤل عن سبب التخمة التلفزيونية في ذلك الوقت من السنة فقط (أي شهر رمضان).

بعد البوتوكس.. ذباب الكتروني
ويتجلى النشاط الصحافي عبر المواقع الإعلامية والسوشال ميديا التابعة لها ولأفراد مؤثرين. ولحسم بعض المسائل والارتكابات بحق أيقونة درامية أو قديس تلفزيوني أو عمل معيّن أو محطة ما، تتدخّل أسراب الذباب الإلكتروني التي تحوم غالبيتها في فضاء "تويتر". وتتكرر هذه الديناميكية في كل نواحي الحياة العامة في لبنان، فالسياسيون يتشاركون مع الاقتصاديين والزعماء والأحزاب والإعلام، ومع مشاهير الفن بالطبع، في استخدام تلك الوسيلة الدفاعية - الهجومية. وفي هذا الأمر وجه شبه يجعل قطاع الدراما في لبنان يستحق بدوره لقب "المنظومة" لناحية تركيبها وتوزّع مواقع النفوذ فيها.

وأما تقييم المسلسلات خلال عرضها فيجري كالعادة من خلال تلك المواقع والجيوش نفسها، فضلاً عن أمر يزيد حماوة الوطيس وهو مساهمات المتفرجين الذين لديهم كل الحق في الإدلاء بآرائهم، فهم الحَكَم الأول والأخير، أو هكذا يخيّل إلينا. (يتبع..)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها