الأربعاء 2021/02/24

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

وزيرة التعليم الفرنسية: اليسار الإسلامي "غرغرينا" أكاديمية واجتماعية!

الأربعاء 2021/02/24
وزيرة التعليم الفرنسية: اليسار الإسلامي "غرغرينا" أكاديمية واجتماعية!
فريدريك فيدال كانت صدى "لوفيغارو" في موضوع "غرغرينا اليسار الإسلامي" في المجتمع والجامعات
increase حجم الخط decrease
يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو أن "تسمية الأمور بغير أسمائها، تضاعف من مآسينا". عبارة تصح في وصف الجدل الذي اثارته وزيرة التعليم العالي الفرنسية فريدريك فيدال في الأيام الماضية حول خطر تغلغل "اليسار الإسلامي" في الجامعات الفرنسية.

تعليقات فيدال أتت خلال مقابلة على محطة "CNEWS" بعدما عنونت صحيفة "Le Figaro" ذات التوجه اليميني، في 12 شباط/فبراير الجاري على صفحتها الأولى: "كيف يتغلغل اليسار الإسلامي في الجامعات كالغرغرينا؟". واعتبرت الوزيرة أن "غرغرينا اليسار الاسلامي" تصيب المجتمع بأسره والجامعات ليست بمنأى عن ذلك. وأضافت أنها طلبت من المركز الوطني للبحوث العلمية "CNRS"، وهو أبرز هيئة حكومية تعنى بالأبحاث الأكاديمية، إجراء تحقيق حول الأبحاث التي تتبنى هذا التوجه الفكري، مضيفة أن عدداً من الأساتذة يستغلون منبرهم الأكاديمي للترويج لأفكار متطرفة من شأنها إحداث شرخ داخل فرنسا.

وبلغ الجدل الداخلي مداه حين عادت فيدال وأكدت على موقفها خلال جلسة للجمعية الوطنية، أشارت خلالها أن غايتها هي تبيان الأبحاث ذات المضمون العلمي من تلك التي تحمل مضموناً سياسياً، ما استفز بدوره الوسط الأكاديمي، فالمركز الوطني للبحوث العلمية أصدر بياناً انتقد فيه محاولة الحد من الحرية الأكاديمية مذكراً بأن "اليسار الإسلامي" ليس إلا تعبيراً سياسياً لا يحمل أي مضمون أو أساس علمي.

كذلك فعل "تجمع رؤساء الجامعات" الذي أصدر بياناً مشابهاً أبدى فيه ذهوله من هذا "الجدل العقيم". ومن خلال عريضة نشرتها صحيفة "Le Monde" اليسارية طالب ما يزيد عن 600 أستاذ جامعي باستقالة فيدال بعدما اتهموها بالخلط بين الشعارات السياسية والأنشطة البحثية المعترف بها.

السياسيون المحليون اتخذوا بدورهم وضعية هجومية، فحث جان لوك ميلانشون، مرشح أقصى اليسار للانتخابات الرئاسية، أساتذة الجامعات على عدم الرضوخ لـ"شرطة الفكر"، وهي عبارة وردت في رواية "1984" الشهيرة لجورج أورويل. فيما اتهم أمين عام الحزب الاشتراكي، أوليفييه فور، السلطة السياسية بتدخلها في ما يجب تلقينه للطلاب كما بالأبحاث التي يتوجب على الأساتذة القيام بها. ووصف بعض النواب المحسوبين على الجناح اليساري للغالبية النيابية، تصريحات فيدال بالحمقاء.

ويلاحظ وجود انطباع عام داخل فرنسا يعتبر أن اليساريين يشكلون النسبة الأكبر من الاساتذة الجامعيين ما يفسر استنفار الوسط اليساري على وجه الخصوص، بوسائله الاعلامية وشخصياته العامة، للرد على فيدال. ولم يكن رواد مواقع التواصل الاجتماعي بمنأى عن هذا الغليان، فتداولوا على نحو واسع هاشتاغ #VidalDémission يدعو إلى استقالة الوزيرة. كما سلطت غالبية التغريدات الضوء على الظروف المعيشية الصعبة التي يعانيها الطلاب بسبب جائحة كورونا، معتبرين أن الأجدر بفيدال التفرغ لهذه الأولوية بدلاً من الهروب إلى الأمام لطمس فشلها.

إلى ذلك، فرضت حالة من السخط والاستنكار الشديدين نفسها على المشهد الإعلامي الفرنسي طوال الأسبوع الفائت ما دفع بفيدال إلى توضيح موقفها عبر مقابلة مع صحيفة "Le JDD" شددت خلالها على عزمها مقاربة هذا الملف من زاوية علمية عقلانية بحتة. أما الرئيس إيمانويل ماكرون فبدا غير متحمس لدعم فيدال بصورة مطلقة.

وهنا، كرر ناطقٌ باسم الحكومة تمسك ماكرون باستقلالية الأساتذة الجامعيين وأن أولوية الحكومة تبقى توفير الدعم المادي للطلاب في مثل هذه الظروف الصحية ليعود في وقت لاحق ويؤكد أن فيدال مازالت تحظى بثقة الرئيس. وبالمقابل انحاز وزيرا الداخلية والتربية بوضوح إلى صف فيدال، فالأول حيّا شجاعتها فيما اعتبر الثاني أن اليسار الإسلامي "حقيقة اجتماعية لا لبس فيها". بدوره أشاد حزب الجبهة الوطنية (اليميني المتطرف) بخطوة فيدال كما هب عدد من الأساتذة الجامعيين للدفاع عن قرار الوزيرة عبر مقابلات صحافية.

والحال أن أسباباً عديدة تفسر البلبلة التي اجتاحت فرنسا: السبب الرئيسي ذكره بيان المركز الوطني للبحوث العلمية ومفاده أن تعبير "اليسار الإسلامي" سياسي بحت. بالتالي، التحقيق الذي طلبته فيدال من شأنه إضفاء صبغة علمية على هذه العبارة السياسية من دون وجه حق، بمعنى آخر شرعنته. فالمرة الأولى التي ظهر فيها هذا التعبير كانت العام 2002 على يد الباحث بيار أندريه تاغييف الذي عاد وأوضح في مقابلة مع صحيفة "Libération" قبل أربعة أشهر، أن ما قصده حينها كان وصف التحالف الناشئ بين أوساط إسلامية من جهة ويسارية من جهة أخرى باسم القضية الفلسطينية، معبراً عن أسفه لحرفه عن معناه الأصلي.

واعتبر الباحث في التاريخ السياسي، إسماعيل فرحات، أنه ابتداء من ستينيات القرن الماضي، نظرت أحزاب أقصى اليسار الفرنسي إلى المسلمين الذين هاجروا إلى فرنسا كـ"محرك للثورة" على اعتبار أن شريحة واسعة منهم كانت من عمال المصانع. بالتالي يمكن استقطابهم سياسياً ونقابياً عبر الجمع بين "الهوية الطبقية والهوية الثقافية". أما احزاب وسط اليسار، فحملت منذ السبعينيات لواء الدفاع عن الحقوق الثقافية لمختلف الشرائح الاجتماعية المضطهدة  (المثليون، حقوق المرأة، ...) معتبرة أنها تشكل امتداداً للحقوق المدنية والسياسية والثقافية. وصحيحٌ أن الدفاع عن حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية لم يكن عنوان تلك الحقبة، لكنها شكلت أساسها البنيوي.

ومع بداية الألفية الثالثة ولا سيما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية وغزو العراق، بات بعض السياسيين الفرنسيين ذوي التوجه اليساري، يميلون ويسوقون لهذا التقارب معتبرين أنه يندرج في خانة التصدي للإمبريالية والنيوليبرالية. لكن مع تتالي العمليات الإرهابية داخل فرنسا من جهة، والتشبث المتزايد بالقيم والمبادئ الجمهورية من جهة أخرى، بات تعبير "اليسار الإسلامي" يحتل مكانة متقدمة في الخطاب السياسي والاعلامي ويستخدم للإشارة إلى "الخائنين".

وهنا، يعرّف الباحث المتخصص في العالم العربي جيل كيبيل، "اليساريين الإسلاميين" بفئة من "المثقفين الذين يشعرون بعقدة ذنب تجاه الشعوب التي عرفت الاستعمار". من جهته رأى الفيلسوف مارسيل غوشيه أن احزاب أقصى اليسار وجدت في المسلمين "بروليتاريا بديلة". ومن وجهة نظر الكاتب باسكال بروكنير، انبهر اليساريون المتطرفون بالجهاديين وبـ"قوتهم البركانية". 

ويمكن القول أنه لا إجماع على تعريف "اليساريين الإسلاميين" ما يدعم الحجة القائلة أن هذا التعبير يفتقد لأي أساس علمي، بل هو تعبير سياسي يستخدم للتصويب على "عصفورين" في آن واحد: اليساريين والإسلاميين، ما يحيل إلى تعبير "البلشفية اليهودية" المستخدم سابقاً لمناهضة الأحزاب الشيوعية عبر استحضار معاداة السامية.

ووفقاً للباحث في العلوم السياسية صاموئيل آيات، تحول مفهوم "اليسار الإسلامي" إلى فزاعة تجمع كل من يسعى إلى وسم المسلمين، محاربة اليسار ونزع الشرعية عن العلوم الاجتماعية .ونالت النقطة الأخيرة حصة وافرة من الجدل بعدما اعتبر العديد من الباحثين والأساتذة الجامعيين أن التحقيق الذي طلبته وزيرة التعليم العالي يحمل في طياته تصفية لحسابات أكاديمية. والمقصود في هذا الصدد الأكاديميون المتخصصون في "ما بعد الاستعمار" وهو حقل أكاديمي يهتم "بدراسة وتفكيك الآثار المترتبة على الاستعمار وعلاقات القوة والسلطة التي نشأت في خضم تلك الفترة وبعدها على مختلف الأصعدة: الأدب، علم الاجتماع، التاريخ، السياسة، الثقافة، الاقتصاد، الأنثروبولوجيا"، علماً أن فيدال اتخذت من هذا الحقل الأكاديمي نموذجاً للتصويب على ما وصفته بظاهرة اليسار الاسلامي داخل الجامعات.

وأتى المركز الوطني للبحوث العلمية على ذكر هذه النقطة قد  في بيانه، مستخدماً التعبير ذاته، "نزع الشرعية عن عدد من الأبحاث لا سيما دراسات ما بعد الاستعمار". وتوصلت الباحثة في العلوم الاجتماعية، روز ماري لاغراف، إلى الخلاصة نفسها، حين أشارت قبل أشهر إلى أن نزع هذه الشرعية يحمل غرضاً سياسي يتمثل في محاولة السلطة تجميل الواقع، فيما تنشط هذه الدراسات لتسليط الضوء على ظواهر الفقر والعنصرية وانعدام المساواة والعدالة الاجتماعية.

ولا يمكن فصل هذا الجدل عن المناخ السياسي الداخلي الفرنسي. من المؤكد أن ما اقدمت عليه الوزيرة فيدال كان اجتهاداً شخصياً منها بلا تنسيق مع ماكرون أو رئيس الوزراء. لكن هذا الاجتهاد لم يولد من فراغ، فرغم أن الجهود الحكومية منصبة حالياً على احتواء أزمة كورونا، لكن استعدادات ماكرون لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة جارية على قدم وساق، وتجلت جزئياً في محاولة استمالة ناخبي اليمين المتطرف كطرح مشروع قانون "تعزيز مبادئ الجمهورية"، المعروف إعلامياً بقانون "مكافحة النزعة الانفصالية". كما ضج الوسط الإعلامي والسياسي الفرنسي بالمناظرة التي جمعت مؤخراً وزير الداخلية جيرالد دارمنان ومرشحة اليمين المتطرف للانتخابات الرئاسية مارين لوبان، اعتبر فيها دارمنان أن مواقف لوبان من الإسلام تمتاز "بالميوعة" في مزايدة واضحة عليها.

على أن أن استراتيجية ماكرون في استمالة ناخبي اليمين المتطرف قائمة حتى قبل أزمة كورونا. وازدادت وتيرتها في الأسابيع الأخيرة بعد نشر استطلاع للرأي يرجح حصول لوبان على 48% من أصوات الناخبين في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية العام 2022. كما أشار الاستطلاع المذكور إلى إمكانية امتناع شريحة واسعة من ناخبي اليسار عن الاقتراع في الدور الثاني إذا ما انحصرت المنافسة بين ماكرون ولوبان، ما يقلص الفارق بين المرشحين وبعزز فرص لوبان لتولي رئاسة البلاد.

من الواضح إذاً أن فيدال أخطأت في حساباتها على أكثر من صعيد، وتحديداً محاولة "السطو على الدراسات الأكاديمية"، ما شبهه بعض الصحافيين بتطويع الأكاديميين سياسياً. كما امتازت وزيرة التعليم العالي بغياب شبه تام عن المشهد الداخلي رغم حاجة طلاب الجامعات لدعم حكومي بسبب ظروفهم المعيشية الناتجة عن جائحة كورونا. وعليه تركزت الانتقادات في جانب أساسي على افتقادها للكفاءة اللازمة لتولي منصب رسمي وذلك لعجزها على تحديد الأولويات ومعالجتها.

أما الخطأ الثالث فكان تناسي فيدال أن ماكرون يلهث كذلك لاستمالة ناخبي اليسار ولا ينصب اهتمامه على اليمين المتطرف وحده. وبالتالي، اظهرت فيدال قصر نظر خصوصاً أن عدداً من الصحافيين يعتبر أن ماكرون "ينهل" من دراسات "ما بعد الاستعمار" لبلورة بعض جوانب سياسته الخارجية، حيث كلف المؤرخ، بنجمان ستورا، إعداد تقرير حول سبل تعزيز المصالحة بين الشعبين الفرنسي والجزائري.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها