الخميس 2021/02/18

آخر تحديث: 17:52 (بيروت)

"كلوب هاوس" وشهوة الكلام

الخميس 2021/02/18
"كلوب هاوس" وشهوة الكلام
increase حجم الخط decrease
بسرعة ملحوظة ينمو المولود الاجتماعي الجديد "كلوب هاوس". سرعة تدفعك للاعتقاد أن ما تجده راهناً ليس إلا البداية. لقد خطف الأنظار، حتى صار حديث بقية المنصات، لوماً وحثاً للمتأخرين على الانخراط في هذه الموضة الجديدة.


لا شك أن للتطبيق الجديد مميزاته الساحرة لكثيرين. بسهولة تجد فيه من تريد أن تسمع منه، أو عنه، كما من تريد أن يسمع لك وعنك. وهذا موضوع استفاض فيه من سبقني من الأصدقاء والزملاء في الحديث عن النادي الجديد. وهو فعلاً نادٍ يجمع على طاولته من يتلاقون على الاهتمام المشترك في موضوعات محددة. وفيه من المرونة ما قد يجعله انديةً في نادٍ.

لكن ما استوقفني فيه ليس نجاحه السريع أو المتوقع فقط، وإنما مجموعة من الخصال يتقدمها كيف استطاع أن ينتزع الرغبة في الكلام من جمعٍ، قالوا أو كتبوا أنهم لا يحبون الكلام المسال عادة. وأنهم يؤثرون الكتابة المنضبطة في وسائل التواصل الاجتماعي على الحديث الشفوي، بل ذهبوا أبعد من ذلك حين أشاروا إلى أنهم مقلّون في حديث الهواتف، وأنهم يرجون من المتصل أن يكون مباشراً بعيداً من المجاملات المملة والمزيفة حين يهاتفهم.

نحن اذاً، أمام ظاهرة تعيد الاعتبار للكلام. للكلام المنطوق، وللارتجال والتعليق، للكاريزما والعراضة. وتتيحه للعموم حتى لو قيدته بنخبوبة الدعوة التي يشترطها التطبيق لدخولك إلى ناديه. والكلام المرسل فيه الكثير من العفوية والانفعال، وهو وإن يكن أبرز وسائل الاتصال البشري وأسهلها، الا أنه لطالما بقي محط حذر ونقد العقلاء. فأبرز عدو للانسان، هو لسانه. على ما شاع في كتب الأولين، وحكمهم.

تعرضت الكتابة لتحدٍ كبير مع الجيل الأول من وسائل التواصل الاجتماعي. كان عليها ان تقتضب، وتُعنى عناية بالغة برشاقتها، أو حدة مضمونها، لتتناسب مع وقت المتصفح ومزاجه، الذي لا يحتمل اكثر من أسطر قليلة، تكون مشمولة عادة بوسائل توضيحية تقدمها صورة ما، أو "ايموجي". واليوم تتعرض لتحدٍ ثانٍ وهو إغراء الكلام المتاح دوماً من دون أي جهد.

من لا يغريه الحديث في السيارة؟!، أو قبل النوم؟!، أو حتى في أوقات العمل ليخفف من ثقل اللحظة عليه؟! ومن لا يغريه شيوع حضوره بين الناس قولاً وصورةً وكتابةً بجهد يسير تتيحه وسامته، أو خفة دمه، أو جرأته أو حتى ربما وقاحته؟! ما تفعله السوشيال ميديا أنها تقدم هذا الإغراء يومياً. سهلت لنا كل شيء. سهلت الفكرة، وسهلت النجومية، وسهلت التأثير. وسهلت "النخبوية".

في السوشيال ميديا، أشتم، تصبح نجماً. كن عنصرياً، تصير بطلاً. تهكّم، تطاول، تجاوز، تقفز سريعاً إلى المراتب العلية. لقد شرعنت وسائل التواصل الاجتماعي الشعبوية ومأسستها. لا يشذ نادينا الجديد عن ذلك. لقد أخذنا بعيداً. أخذنا إلى شهوة الكلام. وتعارض مع كل السالف من القول عن مخاطر الكلام ومنزلقاته. نادينا هذا، يحثنا على الكلام، يحرضنا عليه. ودعكم من زيف فضيلة الاستماع. هذه خدعة. في أحسن الأحوال، وهمٌ. فمن يدخل مستمعاً في أي غرفة من غرفه، يسمع ليتكلم. لكي يقول ما يريد أن يقوله. يتحين الفرصة فقط. والفرصة مع بيت النادي صارت متاحة، وأمام جمع مغرٍ من الناس.

لا يغري الكلام حين يكون بين اثنين، فهو أصلاً لا يدوم كثيراً، بل يغري حين يكون أمام جمهور. ويصبح أكثر اغراءً حين يكون مبارزة. فالبشر، في بلادنا تحديداً، مولعون بالنصر والانتصارات. ومن أسهل الانتصارات، الانتصارات الكلامية. بطولات منجزة، سريعة: لا شيء يمكن أن يدغدغ "الإيغو" مثل انتصار ولو في فضاء افتراضي.

ولـ"كلوب هاوس" ميزة نادرة بين امثاله. لا توثيق فيه. تقول قولك وتمشي، قد تجبه في غرفة أخرى، أو في وقت آخر. كأنه متحرر من أي مسؤولية. أتاح الاستعراض وأباحه. قل ما شئت، فالحكم مقيد في غرفتك وفي من هم معك. ولكل غرفة تاريخها وحكمها ووقتها.

أحسَنَ "بيت النادي" مخاطبة الغرائز إذاً، لكن نجاحه ليس في هذا وحسب، بل في قدرته على أن يغلّف ذلك في قالب جميل، يبدو نخبوياً طاهراً من أي دنس نرجسي أو شعبوي. فهو للنخبة، لا تدخله إلا بدعوة، ولا تشارك إلا بدعوة، ولا تتحدث إلا بدعوة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب