الثلاثاء 2021/12/07

آخر تحديث: 11:58 (بيروت)

"الأزهر" يهاجم المثلية: المدافعون عن الحريات يتحسسون رقابهم

الثلاثاء 2021/12/07
"الأزهر" يهاجم المثلية: المدافعون عن الحريات يتحسسون رقابهم
حملة مناصرة لأبو تريكة في مواقع التواصل لا يمكن رؤيتها إلا في دول ظلامية
increase حجم الخط decrease
تنقل الفتوى الأخيرة الصادرة عن "الأزهر" بخصوص المثلية الجنسية في العالم العربي، موضوع مجتمع الميم من قضية حقوقية محقة وشديدة الأهمية، لكونها تصب في جوهر الكفاح من أجل دول ديموقراطية مدنية في الشرق الأوسط الموبوء بالديكتاتوريات التي تستند على الدين لتحصيل شرعيتها، إلى قضية إعلامية عبر تحريضه على الإعلام المستقل والناشطين المحليين والمدافعين عن حقوق الإنسان، في فتوى شديدة اللهجة حذر فيها من "المواد الإعلامية التي تستهدف تطبيع الشذوذ الجنسي"، حسب تعبيره.


وإن كان التحريض ضد المثلية الجنسية شائعاً ومكرراً في العالم العربي، فإن فتوى "الأزهر" المنشورة في "فايسبوك" من دون رد فعل يذكر من الموقع الاجتماعي الأكبر لهذا النوع من خطاب الكراهية المؤسساتي، لا تتحدث عن تحريم المثلية بحد نفسها استناداً إلى نصوص إسلامية، بقدر ما تصوب على الإعلام بوصفه ناقلاً لبروباغندا تستهدف المجتمع المسلم. لا ينفصل ذلك عن السياسة بطبيعة الحال، لأن المدافعين عن حقوق الإنسان والإعلاميين المستقلين باتوا هدفاً للسلطات الحاكمة في المنطقة، سواء في مصر حيث الجنرال عبد الفتاح السيسي أو في سوريا حيث الديكتاتور بشار الأسد، أو في السعودية حيث الأمير "المصلح" محمد بن سلمان.



ولا يحيل التبليغ عن الفتوى إلى "فايسبوك" إلى نتيجة، عطفاً ربما على مواقف شخصية للموظفين في الشركة أو عدم تقديرهم الكافي لوجود مشكلة، أو عدم كفاءة الموظفين أو الخوف من مواجهة مرجعية دينية عالمية بهذا الحجم، وكلها نقاط تحدثت عنها تسريبات الموظفة السابقة في "فايسبوك" فرانسيس هوغان مؤخراً، أشارت فيها إلى الصعوبات التي تواجه الموقع الأزرق في مكافحة خطاب الكراهية والتطرف باللغات غير الإنجليزية، تحديداً العربية.

ويجب النظر هنا إلى التسلسل الزمني لتفجر قضية المثلية الجنسية في مواقع التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة، بعد تصريحات مروعة للاعب كرة القدم المصري المعتزل محمد أبو تريكة عن المثلية الجنسية والإسلام خلال تحليله لمباريات رياضية في الدوري الإنجليزي لكرة القدم، ارتدى فيها اللاعبون شارات لدعم مجتم الميم، ما حوله فجأة إلى "بطل" محلي لدى شريحة واسعة من المحافظين مقابل الغضب الذي عبر عنه صحافيون وناشطون ومنظمات حقوقية دفعت شبكة قنوات "بي إن سبورتس" للتبرؤ من تصريحات محللها، في بيان رسمي.

وبعد حملة مناصرة للاعب كرة القدم المصري، محمد أبو تريكة، في "فايسبوك" و"تويتر" لا يمكن رؤيتها إلا في دول ظلامية، دخل "الأزهر" على الخط فجأة بوصفه مرجعية دينية إسلامية عالمية. في محاولة على الأغلب لاسترداد ذلك الصوت المحافظ من شخصية توصف بالمعارضة كأبو تريكة وإعطائه للسلطة الحاكمة في مصر، وبشكل مواز بقية الدول العربية التي ما زالت، رغم الخلافات، تستند إلى "الأزهر" من حين إلى آخر حتى لو كانت هناك تباينات سياسية ومذهبية، لأن سمعة "الأزهر" تبقى لدى الشارع المسلم طيبة بوصفه "مستقلاً" و"وسطياً" بعكس شيوخ الجزيرة العربية على سبيل المثال. ومن المذهل هنا ملاحظة كيف يتم التراشق باتهامات دعم المثلية والتبعية للغرب بين داعمي السلطات ومعارضيها، وكأن الطرفين يريدان الوصول إلى النسخة الأكثر تشدداً من الحكم ضمن قالب يدعي العلمانية والمدنية لا أكثر.

واللافت هنا أن أبو تريكة نفسه محسوب على المعارضين لنظام السيسي في مصر، أي أنه من المفترض أن يكون صوتاً داعماً للحريات في المنطقة، لكن موقفه لا يختلف كثيراً عن مواقف الآلاف ممن رأوا في الربيع العربي قبل عشر سنوات، فرصة لاستبدال ديكتاتوريات محلية بديكتاتوريات جديدة على مزاجهم، وليس فرصة للوصول إلى الدول المدنية الديموقراطية مثلما عبّر الملايين ممن خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بذلك وقوبلوا بالقمع.

وبالطبع، فإن الحديث عن الديموقراطية كنظام سياسي قادر على الفصل بين الدين والدولة من جهة، وعلى إعطاء حقوق المواطنة لكافة الأفراد من دون تمييز مسبق بناء على اللون والدين والجندر والميول الجنسية من جهة أخرى، يبقى أمراً بديهياً، لكن الوصول إلى ذلك قد لا يضمن تغييراً حقيقياً في مسألة الحريات، طالما أن جذور الدين الإسلامي نفسه، تصر على ذلك الخلط، ما يجعل الديموقراطية كفراً وهرطقة، وطالما أن السلطات الحاكمة ترعى بشكل منهجي الأصوات المحافظة عبر طبقة رجال الدين، في علاقة منفعة متبادلة ومكشوفة.

وبغض النظر عن كون الأصوات المستقلة تطالب بحقوق المثليين أم لا، فإن تلك التهمة باتت حاضرة في هجوم أي سلطة على معارضيها. بشار الأسد، في سوريا على سبيل المثال، ظهر في كانون الأول/ديسمبر 2020 في مسجد العثمان بدمشق، لإلقاء خطاب خصصه بالكامل تقريباً للحديث عن المثلية الجنسية قبل إطلاق حملة مكثفة في وسائل الإعلام الرسمية تحدثت عن "خطر المثلية" بشكل يجعل الدولة السورية التي اقترفت انتهاكات حقوقية لا مثيل لها، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، تحظى بالشرعية أمام الجمهور المحلي المنتقد للأوضاع الاقتصادية، وتصبح السلطة محقة في قمعها لأي صوت معارض طالما أنها تحمي المجتمع من "الانحلال الأخلاقي البغيض" حسب وصف "الأزهر".

ولا بد من التذكير مجدداً، بأن "الأزهر" رفض بشكل علني تكفير تنظيمات إرهابية مثل "داعش" مراراً، لأن الدموية التي طبقها التنظيم لم تكن مجرد اجتهادات شخصية أو عنفاً مجانياً، بل كانت تطبيقاً للنصوص الدينية بحرفيتها لا أكثر. وإن خلق ذلك صدمة لدى كثير من المسلمين بسبب رؤية تعاليم دينهم تطبق فعلياً في القرن الحادي والعشرين، فإنه لم يتطور نحو حركة أكثر جدية تدافع عن حقوق الإنسان، بدلاً من الحركات التي اتبعت أسلوب دفن الرؤوس في الرمال وطالبت بتحسين صورة المسلمين التي شوهها "داعش" فقط.

وفيما يُعتبر "داعش" والتنظيمات الشبيهة به، منظمات غير مرغوب فيها في خطاب المرجعيات السياسية والدينية في المنطقة، فإن ذلك يعود لخروجها عن السيستم العام. أي أن كثيرين يعتبرون أفعال التنظيم في تنفيذ الحدود الشرعية ضد المثليين وغيرهم، أمراً طبيعياً، لكن المشكلة تكمن في مَن ينفذ تلك الحدود، والمقصود أن الدول القائمة هي من يجب أن تحكم وفق الضوابط الشرعية، لا المتمردين والأفراد الذين يعطون لأنفسهم تلك السلطة. وباستثناء الدول الأكثر راديكالية، كالسعودية وإيران، لا تقوم كل الدول بتطبيق العقوبات الشرعية الأكثر قسوة، كالإعدام والرجم والجَلد، بل تمارس سياسات التضييق والاعتقال والملاحقة والتهديد، ما يفتح الباب لجدل داخلي بين المسلمين أنفسهم حول شرعية تلك الدول، كمدخل تستخدمه الجماعات الجهادية سواء للتجنيد أو لإعطاء نفسها الشرعية اللازمة.

وعبر الخلط المتعمد للمفاهيم، يتم الترويج عبر الإعلام العربي التابع للأنظمة الحاكمة وعبر شخصيات من المشاهير والمؤثرين وطبقة رجال الدين، كل على حدة، لمقولات مثل أن حقوق الإنسان تعني الانحلال الأخلاقي، وأن الدول الغربية ترعى "الشذوذ الجنسي" عبر دعمها المفترض للأصوات الليبرالية المروجة للديموقراطية في المنطقة. ويخلق هذا الخطاب الوهم بوجود معركة وجودية لا تبرر وجود الأنظمة في السلطة، بوصفها ممثلة للإسلام الصحيح، بل تبرر أيضاً البؤس الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه المواطنون في دول الشرق الأوسط، ويصبح الصبر والصمود على الواقع المزري جزءاً ضرورياً من حرب أوسع يخوضها الأفراد أنفسهم نصرة لـ"الدين" و"قيم العائلة" وغيرها.

تأثير "الأزهر" يلاحظ في مواقع التواصل بوضوح حيث تشتد الهجمة على الأصوات المستقلة. وبطبيعة الحال، كانت النصوص الدينية حاضرة للهجوم على المثليين وداعمي مجتمع الميم، ونشر الآلاف آياتٍ قرآنية وأحاديث نبوية في تبريرهم لموقف متشنج يرفض المثلية الجنسية بوصفها من "الكبائر"، فيما كانت التهديدات موجودة أيضاً لكل من يدافع عن القيم المدنية والحريات في العموم، مدعومة بالطبع بالسلطة الدينية التي تجعل من الملاحقات والتصفيات والتهديد حتى بالقتل، مقبولاً وشرعياً تحت شعارات مثل حماية الأطفال من الدعاية الغربية وسلامة المجتمع واحترام القيم السائدة.

يحيل ذلك حتماً إلى مناقشة معنى أن يكون المرء مسلماً، إلى جانب نقاش مواز حول المعنى الحقيقي للحرية إن كانت بمفهومها المقبول مجتمعياً يجب ألا تنتهك المقدسات، بالإضافة إلى النقاش حول الحق في توجيه انتقادات للدين نفسه، لا تسييسه فقط، حتى لو كان الشقان السابقان في المنطقة العربية، شيئاً واحداً بسبب التداخل العميق بين السياسة والدين ضمن بنية الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، التي تطرح نفسها أمام الجمهور المحلي كحارس للقيم والتقاليد، وتغذي بذلك المخاوف المحافظة، من التعبير عن المثلية الجنسية إلى الإلحاد وصولاً إلى الحديث عن التغير المناخي وقيم العائلة، التي "يهددها" مثلاً الانتحار. ويشكل هذا الجو المغلق وصفة مثالية، ليس فقط لتكرار حصول المآسي الفردية، بل أيضاً للتطرف والإرهاب.

وأمام هذا الجدار السميك من المحرمات المقدسة، فإن معركة الحريات الأساسية في المنطقة تبدو قاتمة لأن الجدل كله ما زال يتمحور حول الحق في الحديث عن تلك القضايا من أساسه، بدليل فتوى "الأزهر" الجديدة. وفيما يتحسس المدافعون عن الحريات رقابهم أمام هذه الهجمة الشرسة، فإن التهمة تبقى جاهزة دائماً لملاحقة وتصفية كل من يتحدث بانفتاح عن الحريات وحقوق الإنسان، وهي الإساءة للذات الإلهية أو ازدراء الأديان، أو التبعية لدول أجنبية ونشر الدعاية المغرضة وإضعاف "الروح القومية".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها