الخميس 2021/12/30

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

بائع اللذة..لدى اللاجئين السوريين في أوروبا

الخميس 2021/12/30
بائع اللذة..لدى اللاجئين السوريين في أوروبا
increase حجم الخط decrease
مُجدداً يبدو موقع فايسبوك كطفلٍ رضيعٍ يَبكي ويَضُمُّ أصابعه لشدّة جوعه. إشعارٌ جديد: "لقد قام فلان من أصدقائك بالتعليق عند فلان". "انستغرام" يَحذو حذوَ شريكه الأزرق، ويَقترح عليك صورةً قد تُثيرك. 
كيفما توجّهتَ تداهمكَ تطبيقات ومواقع ومستخدمون. جِياعٌ بأفواهٍ مفتوحة كالحُفَرِ السّحيقة في الجحيم. يريدون أن تطعمهم انفعالاتك وأفكارك وذكرياتك وأحلامك. وليتَهُم يشبعون!.

"بيّاع..ميِن يشتري حلمي ومواويلي". حين غنّاها سعدون الجابر ذات يوم، كان يعتقد بأنه يقولُ شِعراً مُغنّى؛ صورةً أو كنايةً عن حالة عاطفية. ثمّ مَرَّ زَمَنٌ تكفّلَ بتقشير الجماليات عن هذا الكلام، لنحصلَ على لغةٍ عصريّة تنمُّ عن وعيٍ تجاري وفهمٍ عميق لمنطق الاقتصاد الحالي. 

ينطبق ذلك بدرجةٍ أقلّ على صرخَة فضل شاكر ذات أغنية: "بيّاع القلوب.. باعني"، وعلى أغانٍ ومقولات مشابهة. المُهمّ أنها جميعها بشّرتْ - دون قصد- بأهميّة الإعلان والتسويق لمنتجات غير ماديّة.

حُزن، مَلل، حبّ، أمان، حريّة.. وخاصيات إنسانية أخرى اعتدنا أن تغلّفَ سلعاً وبضائع لتزيد مبيعاتها، ثمّ أصبحت هذه الخاصيات هي البضائع!. 

-"وأنت يا صديقي راشد. هل كُنتَ الليلة الماضية تُغلّف بضائعك أم تُسوّقها؟ رغم أنك لا تزال مُبتدئاً في مدرسة اللغات، فقد وصلني من غرفتك كلمات يَصعُبُ عليك عادةً لفظها. هل أنتَ حقاً مَن قال بالألمانية ما معناه: "ستكون ليلتنا سعيدة؟!" أم إنها صديقتكَ ساندرا؟ كلُّ تلك المواهب اللغوية بفعل النشوة؟ مِنْ حُسنِ حظّك أن أحداً من قاطني بقيّة الغُرَف في هذا السكن الجماعي لم يخطر بباله أن يتطفل عليك ليعرف ما يجري. ربما ظنّوا بأنك تشاهد مباراة كرة قدم بتعليقٍ عربيٍّ كثيرِ الآهات والتشويق غير المُبرّر".

تلقّى راشد الأسئلة بابتسامة الواثق، فمَظَاهِرُ حياتهِ موضوعٌ دائمٌ لنقاشات جريئة لا تشوبها سوى بقايا ملامح الخجل الريفيّ، وانقباضات ترقّب الآراء السلبية على وَجهِه. لقد جاءَ من بيئةٍ كادحة، كما يقول، وظلَّ كادحاً حتى اللحظة. لكن مع فارق جوهري هو أنّ مقياس عمله باتَ النتيجة بَدلَ العَرَق. 

"في بلادنا عشنا كذبة الإنتاج الزراعي والصناعي الوفير، مع أنّ اعتمادنا كان على المِنَح والترضيات عن أدوارٍ إقليمية. واليوم نحن مُطالَبونَ بأن نقتنع بوَهمِ "فقدان قيمة كل شيء"، وبضرورة الاعتذار للكوكب وللطبيعة، والتكفير عن التاريخ والحاضر والمستقبل. ولماذا؟ كي نتبرع بممتلكاتنا من أشياء وأفكار وأحاسيس دون مقابل، ونُطعِمَ أفواهاً جائعة لن تشبع!".

مَنطِقٌ يبدو مُفتقِداً للأخلاق. هذا في العُرفِ العام. أما راشد فيَرفضُ إقحام القِيَم الأخلاقية الشرقية والغربية في الأمر، ويُفضِّلُ أن يُحاجِج بلغةِ العصر قائلاً: "جئنا إلى بلاد القانون الحاف، وتركنا خلفنا قوانين الآداب والفجور والذوق، وسلطة الشارع والحيّ، ونظرات الجالسات والجالسين على المصطبة في مساءاتنا الصيفية، وآراء أم يوسف وأبو سليم".

وساندرا! ما هو موقعها في هذه المعادلة؟ ذلك ما يتجنّبُ راشد الحديث عنه. غير أنّ أي مُهاجرٍ اختبر الحياة في ألمانيا سيُخَمِّنُ أن هذه الفتاة كأقرانها من الأوروبيين والأوروبيّات المُشبَعين والمُشبعات بالخبرات الحياتيّة تَبحثُ عن "تجربة مختلفة"؛ عن وَشمٍ جديد مثلاً باللغة العربية أو الصينية تضعهُ على هامشٍ مُتاحٍ مِن جسدها، أو عن تبنّي قضيةِ شعبٍ ما يعيشُ في أقاصي الأرض، أو تربية حيوان مُهدّد بالانقراض، أو اعتناق ديانةٍ آسيويةٍ قديمة، أو تعاطي نوع معين من الحشيش، أو خوض مغامرة جنسية مع شابٍّ اختنق بمكبوتاته حتى عرّشت على تعبيراته وإيماءاته. 

"إنها تتسوّقُ لشراء هرمونات السعادة من مَصادر عديدة. وأنا من جانبي أبيعُ وأشتري. أحياناً أحصلُ على سعادةٍ أقلّ مُقارنةً بها، فأطلبُ مساعدتها بترجمة أوراق رسمية أو إتمام معاملة حكومية. وبذلك أسترجع الفكة، فلا أشعر بالظلم". علاقةٌ مباشرةٌ لا تبالي بإشهار النوايا يُعَبِّرُ عنها هذا الشاب، وتجعلُه مرتاحاً للتعامل "وفقاً لبضاعة محددة تكاد تخلو من أي خربشات أخلاقية على هامشها" حسب وصفه. بل أنه يشعر بالفخر لكونه يتحاشى "طرقاً ملتوية يسلكها مهاجرون آخرون، بَعضُهُم يخلط العائلي بالنفعي عند زواجه بفتاة شرق أوسطية، ويُحوّلُ الموضوع إلى سمسرة، فيشترط على الزوجة دفع مبلغ مالي مقابل لمّ الشمل، أو التوقيع على تعهّد بعودتها إلى بلدها في حال الطلاق! ومنهم مَن يَطُلب مَهراً بآلاف اليويوهات لتزويج ابنته العربية المقيمة في أوروبا، ويُحاضِرُ بقِيَم الشرف والعفاف!."

يستطيعُ راشد إذاً أن يُمطِر أصدقاءه بأسباب وخلفيات سلوكه. وسوف يَجِدُ من يُثابرونَ على اعتبار مقاربته ردّ فِعل. إلى أنْ يُسقِطُهُم بالضربة القاضية حين يُسهِبُ شارحاً موقفه، ومُؤكِّداً بأنّه كإنسان يُهمّه بالمحصلة ألا يُتاجِر بما يَخصّ سواه أياً كانت المنتجات، فلا يستخدم مثلاً تفاصيل علاقته بساندرا ويقحمها في مواقع التواصل لزيادة مُعجَبيه، ولا يُرمّمُ شعبيّته بنشر صور أطفال المخيمات بذريعة تضامنه معهم، ولا يُوَظّف فكرة "الإنسانية" لاستدراج لاجئين وتهريبهم وسَلبِ ممتلكاتهم، أو لجمعِ التبرعات من متابعين شَعروا بالذنب أمام المآسي.

"قد أكون شهوانياً، لكنّ رغباتي طبيعية ومُترفعةٌ عن انتظار جثث الضحايا أن تطفو فوق الأخبار لتحويلها إلى استعارات لغوية ومجازات وقصائد ومظلوميات تستجلب الثناء أو المشاريع أو التمويلات". 

يُنهي راشد حديثه ثم يقرأ رسالةً وَرَدَتهُ عبر واتساب، ويُعلّق قائلاً: "تُريد ساندرا أن نَخرُجَ للتسوّق. وأنا مشغولٌ بواجبات دراسيّة. في المرّات القادمة سأغلق هاتفي طوال المساء. طبعاً بعد أن أضع على فايسبوك حالة مُلخّصها: راشد يشعر بالمرض".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها