الثلاثاء 2021/12/28

آخر تحديث: 15:56 (بيروت)

"أتمنى خيمة"

الثلاثاء 2021/12/28
"أتمنى خيمة"
increase حجم الخط decrease
"شَهد" هي طفلة في العاشرة من عمرها فقط، تبتسم ببراءة مع اقتراب العام الجديد وتتمنى أمنية. ليست لعبة جديدة ولا دمية لبوكيمونها المفضل ولا هاتفاً ذكياً ولا فستاناً مزركشاً ولا حتى باقة من الورود أو ألواناً للرسم أو قصة تقرأها قبل النوم. كل ما تمنته كان خيمة بسيطة. "أوه هذا لطيف إنها طفلة مغامرة تحب التخييم وتتماهي مع الطبيعة في الحدائق والغابات"، قد يعتقد أحدهم لوهلة قبل أن يدرك أن شهد طفلة نازحة في إدلب تريد فقط سقفاً يحميها من المطر وجدراناً تقيها من البرد مع عائلتها، حتى لو كانت مصنوعة من القماش.

العفوية التي تحدثت بها شهد لمراسل قناة "الجزيرة" علاء الدين يوسف، صدمت كثيرين ممن باتت القضية السورية لديهم خبراً ثانوياً يحتاجون تذكيراً دائماً بأنه مازال موجوداً. وفيما كان هنالك إحساس موحد بأن الحرب في سوريا مازالت أمراً واقعاً، رغم أن المشهد تحوّل إلى صراع مجمّد خلال السنوات القليلة الماضية، خفت فيه صوت القنابل قليلاً، من دون أي تغيير يُذكر في طريق الإصلاح السياسي المنشود، بموازاة أزمة إنسانية، فإن ذلك يبقى مجرد تعاطف لحظي غير قادر على دفع الملف السوري نحو صدارة الأولويات.


ويعني ذلك أن الحزن المنتشر على شهد وغيرها من الأطفال السوريين الذين تُسلط الأضواء على معاناتهم فجأة، يبدو أقرب إلى تورط عاطفي منه إلى تعاطف حقيقي، مع طيف من العجز الآتي من إدراك بأن الأمنيات الطيبة بشأن تحقيق الاستقرار لملايين السوريين، ولملايين أكثر في الشرق الأوسط المضطرب، لا تكفي، مع غياب أي تحرك رسمي لحل المشكلة جذرياً، والذي يفترض أن يأخذ في الحالة السورية، شكل تحرك دولي لإيقاف الحرب ومحاسبة الأطراف الفاعلة فيها على انتهاكاتها.

وظهر المراسل نفسه في مقطع فيديو آخر مع شهد التي ارتدت الحجاب للإعلان عن كونها باتت مالكة لمنزل من قبل متبرع ثري، فيما قامت منظمات إنسانية بتوفير التدفئة للعائلة. لكن صورة شهد في الفيديو الثاني كانت محزنة أكثر من الفيديو الأول بمراحل، حيث كانت رغم كل بؤس حياتها محتفظة بضحكة جميلة. وفي المقطع الثاني بدت مكسورة وكأن عرض مشكلتها أمام العالم بعفوية كان ذنباً اقترفته، في وقت تتحدث فيه عشرات التقارير الإعلامية عن قضايا فساد تخص التبرعات الموجهة للاجئين والنازحين السوريين في إدلب تحديداً، حيث تحول العمل الخيري والمنظمات غير الحكومية إلى "بزنس"، فيما تمتلئ مواقع التواصل بصور لمخيمات أقيمت أمام الكاميرات ونزعت من مكانها في وقت لاحق، كدليل على ذلك.



والحال أن عرض قصة شهد التي لم تعرف منزلاً بجدران وسقف طوال حياتها ربما، وحلها بسرعة بهذه الطريقة، يحول الموضوع كله من حالة عامة يعيشها أكثر من 3 ملايين سوري نزحوا من مناطق مختلفة من البلاد إلى إدلب طوال سنوات الحرب السورية، إلى قضية فردية لا تستحق التوقف عندها. وينزع ذلك سياق الحرب السورية عن حالة شهد ويقدمها ضمن سياق مختلف تماماً يتعلق بالفقر والبحبوحة، لا الحرب والنزاع والجرائم ضد الإنسانية المتكررة في البلاد. ويذكر ذلك تماماً بحالة الطفلة سناء العام 2019 التي أطلق عليها لقب "سندريلا المخيمات" في مقاربة مع القصة الخيالية الشهيرة حيث تنتظر الفتاة الفقيرة الأمير الغني كي ينتشلها من حياتها المعدمة كخادمة، وتلك إهانة أخرى بمعايير القرن الحادي والعشرين للطفولة والنسوية على حد سواء، تحققت في حالة شهد التي أنقذها متبرع ثري من أزمتها، من دون الحديث عن الثمن أو المقابل.



والمؤسف أكثر، أن بؤس شهد بالتالي صورة مثالية قادرة على خلق "كليشيه رومانسي" يمتزج فيه الفقر مع الحرب مع الطفولة والبراءة، ويخلق لأصحابه نوعاً من الرضا الذاتي، أو قد يكون كفيلاً بتحصيل بضعة إعجابات إضافية وقلوب حمراء وشيء من الدموع الافتراضية في عصر السوشيال ميديا، لا أكثر. وتحفز على ذلك حقيقة أن الفيديو نفسه والصور الملتقطة منه، تبقى في الواقع صوراً نظيفة بعيدة من العنف والقسوة، مقارنة بصور دموية قدمتها الحرب السورية خلال العقد الماضي، مع الأخذ في الاعتبار أن ثقافة السوشيال ميديا غذّت رغبة العالم بمشاهدة الصور "النظيفة"، حتى لو عنى ذلك تجنب الحقيقة.

فصُور الأطفال الذين قتلوا في الهجمات الكيماوية مثلاً مقارنة بصورة شهد، تبقى مؤلمة وموجعة وتطارد الناظرين إليها في كوابيسهم. أما الصورة النظيفة التي لا تتضمن الأشلاء والدموع فتترك للناظر إليها مساحة لتخيل الأسباب الكائنة وراءها. لكن المشكلة اليوم هي انتشار سياقات مشوهة يصبح فيها "الألم الرومانسي" مركز الانتباه وليس القضية الأصلية، خصوصاً أن الفيديو التقط في لحظة هادئة لا تتضمن حدثاً حربياً مباشراً، وليس كصورة الطفل عمران دنقيش في حلب العام 2016 والتي تصدرت الإعلام العالمي حينها، كرمز للقصف الأسدي على أحياء حلب الشرقية، رغم كونها صورة نظيفة أيضاً.



وبالطبع، لا تؤدي الصورة النظيفة إلى أكثر من التعاطف المريح لصاحبه، لأنها تبقى في إطار التعميم السطحي القائم على تجهيل هوية المجرم وتعميم الألم الرومانسي، والدليل واضح: لا أحد على الإطلاق يذكر المسؤول عن معاناة الأطفال وعائلاتهم. ربما لأن لا أحد يبالي حقاً.

وحتى انحراف الحديث نحو الثورة السورية واستمراريتها وتعميم أوصاف على الأطفال اللاجئين بأنهم عماد الثورة المستقبلية على سبيل المثال، يبقى مستفزاً وكأنه حمل ثقيل يتم توريثه على طريقة القضية الفلسطينية بكل عبثيتها. فهذا الجيل من الأطفال السوريين الذي عاش طوال حياته في ظل الحرب ولم يعرف شيئاً غير الدم والخراب والقهر والجوع والخوف في أقصى درجاته، لم يعيشوا في سوريا التي قامت الثورة السورية لتغييرها، بل عاشوا في عالم مواز أقرب لديستوبيا عميقة من اليأس حيث لا إمكانية لنجاتهم بينما كان وجودهم، ومازال، مستهدفاً من قبل جيوش وطائرات، وكان ذنبهم الوحيد أنهم خلقوا على الطرف الخاطئ من الجبهة، لا أكثر.

ويجب التذكير مثل كل شتاء بأن معاناة النازحين السوريين داخل المخيمات في ريف إدلب تتفاقم  نتيجة استمرار تساقط الأمطار وهبوب الرياح القوية، فيما تعرضت عشرات المخيمات لأضرار كبيرة مؤخراً، علماً أنه خلال السنوات الماضية هُجّر ملايين المدنيين إثر قصف النظام وروسيا لمدنهم، إلى المناطق القريبة من الحدود السورية التركية. واضطرت مئات آلاف العائلات للسكن في خيم بعدما عجزوا عن تأمين بيوت تؤويهم. وتعاني المخيمات المذكورة من انعدام البنية التحتية، فضلاً عن تحولها إلى بُرك من الوحل خلال فصل الشتاء.

وأطلقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" نداءات استغاثة عاجلة لمساعدة نحو 3 آلاف و640 عائلة تضررت خيمها بسبب العواصف الممطرة في شمال غربي سوريا، وناشدت الدول والمنظمات العربية والدولية الإسراع في تقديم المساعدة. وأوضحت في بيان تفاصيل الكارثة التي تحاصر آلاف المدنيين في مخيمات شمال غربي سوريا. حيث تضرر نحو 400 مخيم، بإجمالي ما لا يقل عن 5 آلاف و163 خيمة متضررة بشكل جزئي أو كامل وتشريد قرابة 3 آلاف و642 أسرة، ويبقى "النساء والأطفال والكهول هم الفئات الأكثر تأثراً لأنها الأكثر هشاشة بين النازحين".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها