الإثنين 2021/12/27

آخر تحديث: 19:06 (بيروت)

وجوه ريتا باروتا… وجوهنا

الإثنين 2021/12/27
وجوه ريتا باروتا… وجوهنا
increase حجم الخط decrease
وافقتْ ريتا باروتا على أن أكتب مقالاً عن صفحتها في فايسبوك. مضى وقت طويل على ذلك. كانت ريتا في أثنائه تنير ظلام البلاد وتلطّف وهج جهنم. فلنقُل، كانت تحاول. حاولت. ثم توارت أياماً معدودة متراجعةً أمام اشتباكات يومية عنيفة مع قسوة الكون. فضّلت أن تهدأ قليلاً لتجبّر كسورها. ثم طلعت بهية من جديد تتعالى على ندوبها.

أراني أكتب عن ريتا، وليس عن صفحتها، مع أني لا أعرف هذه الإنسانة حق المعرفة. لفتتني حيويتها ونضارتها وحضورها وهي تغنّي داخل ذلك الكادر الصغير الذي يتّسع لكأس نبيذ، ووجهها وشعرها وقسطاً من جسمها، فضلاً عن قطّتها تولا. أما قسمات وجهها وملامحها وصوتها وحركاتها، فلم تكن مساحة الكادر لتكفيها طوال أمد الغناء الوجيز. كانت تتوه خارجه في أحيانٍ كثيرة.

هذا ما كنت أعتزم الكتابة عنه في صفحة ريتا. لكن تواريها والثقل الذي أرخاه صمتها أياماً قليلة، أوقفني عن المتابعة. لم يعد في وسعي قراءة صفحة فايسبوك تحتوي على كل المواد التي تشكّل مادتي هذه، أثناء احتجاب صاحبتها.

ذلك أن محتوى الصفحة يرتبط فيه المعيش اليومي العام بالخاص، فإذا تغيّبت منتجته، تعطّلت تلك العلاقة. والمحتوى يبدو مرتّباً على يد هذه الأستاذة الجامعية على نحو بوستات سياسية وثقافية واجتماعية وترفيهية. ثم تأتي الفنانة المقيمة في أحشاء الأستاذة والشاعرة، لتمنح الزوار فسحات فنية راقية، منها الغنائي بأداء رفيع ومنها الكاريكاتوري الهادف. كما أن المحتوى طافح بإيجابية مُعدِية كالضحك: إيجابية مضادة للاكتئاب بسبب الحَجر أيام الكورونا تارةً، وطوراً مضادة للانهيار في الطريق إلى جهنّم وبعد بلوغ نارها.

تقدّم ريتا أغنيتها ببضع كلمات مثل: "طريقة جديدة لمحاربة الاكتئاب: #كلوا_تصحوا" أو "انهيار اليوم برعاية راقصني حتى يخلص الحب" أو "انهيار اليوم مع ايمي واينهاوس. السلام ع اسمها" أو "انهيار اليوم بعنوان أحلام لذيذة"...

ريبيرتوار حاشد وثري بالمغنَى، حتى وهي تقود سيارتها أو تداعبها قطّتها، زاخر بالرقص والقراءة والتفكّر والمواقف الحازمة من النشاز والغطرسة... وبفرحة 17 تشرين.

ريبيرتوار مطعّم بالكوميديا السوداء، بطلتها ماري روز مشنتف، الشخصية الرقمية التي صنعتها ريتا أخيراً وأحيتها فباتت تعيش بيننا في حوارينا. وتُعَدّ ماري روز كشفاً لمَلَكة التمثيل لدى صانعتها.

لم تبدع ريتا ذلك كله لنفسها، إنما للتعبير عنها أمام كل من يزور الصفحة، فتحمله إلى مكان مختلف، تبعده عن جهنّم لمدّة تقلّ عن دقيقتين، أثرها شافٍ كأثر قهقهة مدوّية بعد سماع نكتة طريفة.

مضى وقت آخر، قبل أن أكتشف أخيراً أن ريتا توقفت في 26 أيلول/سبتمبر الماضي عن إنتاج هذه الكبسولات من مضادات الإحباط مع فيديو "انهيار اليوم بعنوان ناتاشا ارقصي كرمالي" والأغنية لكريس دو بورغ. لم أسألها لماذا توقفت، لكنّها، وكإجابة استباقية، استأنفته في 20 تشرين الثاني/نوفمبر مع "رجع إنهيار الشتي. الليلة مع خوسي فيليتشيانو، الشتي".

إذاً، مكثتُ طويلاً تائهاً في إنجازات ريتا أحاول إيجاد قالب أدبي أسكب فيه كلماتي هذه. وأثناء جلساتي أمام تلك الكادرات الضيّقة كنت أرى امرأة قادرة على تغيير مظهرها بسلاسة غير آبهة لحُسنها أو بشاعتها في لحظات التحوّلات. فما يهمّها هو نقل مشاعرها بصدق. وتدفّق مشاعرها هو ما يحرّك قسمات وجهها ويبدّل ملامحها ويلوي جسدها ويبعثر شعرها الكثيف ويرقّصها، كما يجعل صوتها الحلو يتقلّب بحرفية بين قرار وجواب وشدّة ولين وقوة وخفوت.

ويبدو وجه ريتا، داخل الكادر الضيّق، متعدداً، كما لو أننا نراه في مرآة متكسرة، حين تتضخّم عين وتنسدل خِصلة وترقص يد وينقبض جسد ويتموّج خد ويتوسّع منخران شفطاً لهواء يعزّز جهارة الصوت، فينفجر فم وتتدفّق الكلمات ويستمر انسياب اللحن. وفي السياق الذي تقدّم به ريتا كبسولاتها، من البديهي أن تعكس "وجوهها" هذه لمشاهديها، آلامهم ومعاناتهم في جحيم منطقتنا، تردّها لنا من آلامها ومعاناتها.

قيمة الإنسان ليست في إنجازاته في ظروف مؤاتية، إنما في ما ينجزه في الشدائد والمِحن… وهذه أيضاً من قيم ريتا باروتا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها