الإثنين 2021/11/29

آخر تحديث: 14:32 (بيروت)

رفع الدعم الحكومي.. سياسة فائض القوة السورية

الإثنين 2021/11/29
رفع الدعم الحكومي.. سياسة فائض القوة السورية
increase حجم الخط decrease
بعد عقود من المطالب الشعبية، ومسلسلات أيمن زيدان الناقدة للترهل الحكومي، باتت الدولة السورية تتمتع بالشفافية مع المواطنين، ولم تعد الحكومة تخجل من تصدير قراراتها التي تتنصل فيها من مسؤولياتها كسلطة يفترض أنها تتمتع بالشرعية وفق الخطاب الرسمي، وهو ما يظهر بوضوح في القرار المرتقب لرفع الدعم الحكومي في البلاد عن شرائح واسعة من سكان البلاد الذين تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من 85% منهم يعيشون تحت خط الفقر أصلاً.

وبعيداً من السخرية، يظهر السوريون شيئاً من اللامبالاة في وجه القرار الذي تحدث عنه أولاً وزير التجارة الداخلية عمرو سالم مطلع تشرين الثاني/نوفمبر ومن بعده رئيس الحكومة حسين عرنوس منتصف الشهر نفسه، من دون إحداث ضجة حقيقية، قبل نشر وثيقة، وصفت بـ"المسربة"، موجهة إلى وزير الاتصالات والتقانة إياد الخطيب، تفصل الشرائح التي سينقطع عنها الدعم مع مطلع العام الجديد، ومنها أصحاب المهن الحرة والأطباء والصيادلة وأصحاب المكاتب العقارية والمواطنون الذين يمتلكون سيارات سعة 1500 وما فوق ومن يمتلكون أكثر من منزل في المحافظة الواحدة وأصحاب المقاهي والكافيتيريات وغيرهم.



المضحك هنا أن النظام يرفع دعماً لا وجود له بالكاد، فأزمات الخبز والبنزين والكهرباء كانت حاضرة على الدوام في السنوات الماضية، ومع انهيار الاقتصاد وتدهور سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الرئيسية، كان النظام يمهد لهذه القرارات عبر حرمان المواطنين من الخدمات رغم إمكانية توفيرها لهم حسبما تقول تقارير ذات صلة. وبالتالي يصبح الوصول إلى الخصخصة الكاملة وتحول الدولة من النموذج الاشتراكي القائم منذ ستينيات القرن الماضي إلى النموذج النيوليبرالي الذي تم الترويج له من وصول بشار إلى السلطة العام 2020 وقوبل بالاستهجان، أكثر سهولة، لأن السوريين سيقبلون بأي حل يوفر لهم الخدمات مهما كان سعرها باهظاً ومهما كانت الجهة التي توفرها لهم.

ويروج النظام هنا لمقولات زائفة تتحدث عن أن رفع الدعم هو الخطوة الأولى لمحاربة الفساد وإصلاح الاقتصاد ومعالجة الترهل الرسمي، بشكل مشابه لفكرة الإصلاح الاقتصادي في السعودية التي قادها الأمير محمد بن سلمان والتي كانت ضرورية للمملكة التي يعاني اقتصادها من تبعات نظام التبعية القائم هناك منذ عقود ويقضي بتوزيع الثروات الآتية من النفط على السكان بما تبعاً لشرائح مختلفة كثمن لشرعية الأسرة الحاكمة. لكن الفارق هنا أن الإصلاح الموهوم في سوريا اليوم لن يحل أياً من المشاكل القائمة بقدر ما سيفاقم البؤس اليومي. على سبيل المثال، سيرتفع سعر جرة الغاز وفق السعر الرسمي من 11 ألف ليرة سورية إلى 30 ألف ليرة سورية. لكن الغاز نفسه لا يتوفر لمعظم السوريين المشمولين بالدعم، ويضطرون بالتالي لشرائه من السوق السوداء حيث يصل سعر الجرة إلى نحو 130 ألف ليرة سورية. ويصبح رفع الدعم مجرد البداية لتشريع الخصخصة ولا يمكن تقدير المدى الذي ستصل إليه الأسعار حينها.

ولا تعني الخصخصة وجود سوق ليبرالي حر يقوم فيه المدنيون بأعمال تجارية حرة وفق اقتصاد السوق، بل سيبقى النظام ومن يرتبطون به هم المسيرون للاقتصاد مع تحكم السلطة بمن يمتلك المشاريع ومن يحظى بالامتيازات، والتي تذهب في العموم إلى شركات إيرانية وروسية كما كان واضحاً في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى رجال الأعمال الأعمال والتجار وقادة الميليشيات والمسؤولين وأصحاب النفوذ ممن دعموا النظام وساندوه خلال العقد الماضي، وفي المقابل يحتفظ النظام بشرعيته كسلطة لكن الشرعية تنتقل من الشعب إلى النخب الاقتصادية، ومن هنا يمكن فهم الطريقة الوقحة التي يتم فيها تمرير القرارات الاقتصادية ذات الصلة إلى الناس، مع تجاهل الأصوات الناقدة من متخصصين اقتصاديين وصحافيين يتواجدون في مناطق النظام.   

هذا بالطبع ليس جديداً فمنذ العام 2016 على الأقل يمكن تلمس تصريحات لمسؤولين سوريين مختلفين من بينهم وزراء ومستشارون رئاسيون مثل بثينة شعبان، كرروا فيها أن الانهيار الاقتصادي "وهمي" وأن الأسعار لن تعود أبداً إلى حدودها القديمة مهما تحسن سعر الصرف الليرة السورية أمام الدولار ولو وصل إلى حد الخمسين ليرة المعتاد قبل العام 2011. وكان ذلك نتيجة طبيعية لانهيار بنية الدولة بعد الثورة السورية وانتهاء صلاحية العقد الاجتماعي الذي أعطى لسوريا هويتها كدولة منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة العام 1970 بانقلاب عسكري.

وفيما يجادل البعض بأن الثورة السورية التي قامت من أجل تغيير النظام السياسي في البلاد وتحقيق بعض الإصلاحات، فشلت في هدفها الأساسي، لكنها أدت إلى انهيار الدولة ومؤسساتها، لتصبح بالتالي مسؤولة بشكل مباشر على الخراب الحاصل اليوم رغم انحسارها نسبياً منذ دخول الروس إلى البلاد العام 2015 لدعم النظام عسكرياً، بطريقة أشبه لنظرية "تأثير الفراشة" (The Butterfly Effect)، لكن ذلك الجدال يتجاهل حقيقة أن مؤسسات الدولة كانت غير موجودة أصلاً وغير فعالة حتى في حال وجودها قبل الثورة. وبالتالي فإن تحول سوريا إلى نموذج الدولة الفاشلة لم يحدث بعد العام 2011، بل بات واضحاً للعيان فقط بعد ذلك التاريخ لا أكثر.

وبهذا فإن النظام السوري اليوم بتعامله مع ملف الدعم الحكومي يتجه لـ"الشفافية" ليس كإصلاح ديموقراطي طال انتظاره بل كأحد وجوه سياسة "فائض القوة"، حيث لا يملك السوريون سوى القبول بالواقع وإلا كان الاعتقال وغيره من الانتهاكات بالمرصاد لكل من ينتقد في مواقع التواصل، كما تصبح عبارات التخوين حاضرة في الإعلام الرسمي لكل من لا تعجبه القرارات الجديدة، لدرجة يصبح فيها السوريون أنفسهم هم من يعرقلون مسيرة الإصلاح التي بدأتها القيادة الحكيمة قبل 21 عاماً.

والتزمت الحكومات المتعاقبة، حتى في سنوات الثمانينيات الظلامية، بتأمين الأساسيات كالخبز والكهرباء والطبابة والتعليم، مهما كانت الجودة رديئة، مع منع السوريين من الانزلاق نحو الجوع رغم إبقائهم في حيز الفقر. وفي سنوات الثورة السورية الأولى، كان النظام مع طبقة التجار المرتبطة به يلعب على الخط الفاصل بين الجوع والفقر، لأن الفقر مبرر ضمن سياق الحرب المشتعلة في البلاد ويمكن ضبطه ومنعه من التحول إلى جوع خطير، عبر المعونات الاجتماعية والتعويضات التي يقدمها التجار على أنها أعمال خيرية "غير رسمية"، انتقلت مع مرور الوقت إلى المنظمات المرتبطة بأسماء الأسد مثل "الأمانة السورية للتنمية"، خصوصاً بعد عملية "قص أجنحة" رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد، العام 2020.

في ضوء ذلك، تظهر السلطة في سوريا هزيلة ومهلهلة وعارية على الصعيد المدني والخدمي بقدر ما هي متوحشة على الصعيد الأمني. وإن كان هنالك رعب من البطش فإن ليس كافياً لإيقاف السخرية التي يتعامل بها السوريون في مواقع التواصل مع حياتهم بالدرجة الأولى وليس ما يجري حولهم من قرارات. ويصبح الرعب الصريح في التعليقات في "فايسبوك" و"تويتر" بالتالي رعباً لا يسكت أصحابه مثلما كان في سنوات الثمانينيات، بقدر ما هو رعب كوميدي بأبعاد عدمية فقد معها السوريون في مناطق سيطرة النظام الإحساس بقيمة الحياة التي يعتبرونها مرادفة لانتظار الموت لا أكثر. كما أنه رعب يسخر من نفسه بنفس الطريقة التي يسخر فيها من مسببه، في إدراك مذهل لتفاهة السلطة التي فقدت حتى القدرة على تكرار نفسها بنجاح.

وليس من المفاجئ أن يصل سوريو الداخل إلى قناعة جماعية متأخرة بأنه لا طائل من جَلد الدولة وتقريعها على تقصيرها المتعمد، لأنها كيان غير موجود أصلاً، وتوجيه انتقاد لها يعني الاعتراف بوجودها، هي التي توقفت عن الوجود بالفعل لصالح تحولها إلى كانتونات متصارعة إثنياً وطائفياً على المستوى السياسي العام، وإلى واجهة تمثل مصالح الآخرين، بداية من مصالح حلفائها الروس والإيرانيين على صعيد السياسة الخارجية، وصولاً لمصالح رجال الأعمال وقادة الميليشيات على صعيد السياسة الداخلية والقرارات الاقتصادية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها