الأربعاء 2021/11/10

آخر تحديث: 17:10 (بيروت)

كيف لصاحبة الخصلات المُلَكلَكة أن تجهد لتُفقدَها جمالها؟

الأربعاء 2021/11/10
كيف لصاحبة الخصلات المُلَكلَكة أن تجهد لتُفقدَها جمالها؟
increase حجم الخط decrease

أنتمي منذ طفولتي غير المبكرة، إلى فريق الشعر الـcurly. أحبّ أبي شعري كثيراً، فإذا عاد من عمله مثلاً ليجدني قد مَلَّسته، أبدى انزعاجاً شديداً، وراح يهزّ رأسه و"يتستس" ويقول نهايةً: "لا أفهم لماذا تصرّين على اللّعب بشعرك الجميل. كيف يمكن لمن تكون له خصلاتٌ مُلَكلَكةٌ جميلةٌ أن يبذل جهداً ليفقِدها جمالها؟!". 

المهمّ أن أبي ضخّ فيّ حبّاً لشعري وتمسّكاً دائماً به وخوفاً حتى من أن أفقده. في ذاك الوقت، كانت الفتيات ذوات الشعر الأملس، هن الأكثر شعبيّةً في المدرسة، لذا بدا لي تمسّك أبي بتجعيدات شعري معاكساً للتيّار. في ذاك الوقت أيضاً، كنتُ قد كسبت بعض الوزن، وقصصتُ شعري قصيراً، فكان بعض زملاء الصفّ يشبّهونني بالماعز ويضحكون تحبّباً. كان خطأً من قِبَلِهم يمكن استغلاله، لا سيما أنني كنت ضليعةً باللغات والعلوم، لكن توتّري من اللّقب حال دون قلب السِّحر على الساحر في حينها. كان في وسعي أن أسخر قائلةً مثلاً: "للماعز شعر أملس كشعرك"، أو "هلّا تعلّمت الفرق بين الماعز والغنم قبل أن تتكلّم؟"، لكن ذلك كان ليؤدّي ربّما إلى نعتي بالغنمة أو الخروف وهو ما لم يكن ليناسبني.

وما بين الغنم والجمال، ضاع لفترةٍ تقديري لشعري الكورلي. أُحبُّه في المنزل ويزعجني في المدرسة، لكنني سرعان ما خسرت الوزن الزائد وأطلتُ شعري ولم تعد المواشي كلّها تعنيني. وبقي من كلّ تلك المرحلة تمسّكٌ إضافيٌّ من جهتي بشعري المجعّد، وإدراكٌ متأخّر بأن شعر جدّتي لأبي كان بالضرورة مجعّداً. لم أرَ في حياتي صورةً لها، ولم أسأل أبي، لكني رغم ذلك صرت أعلم أنها من فريق الكورلي علم اليقين.

نجح أبي إذاً، في تمتين علاقتي بشعري أوّلاً، وفي دفعي إلى التفكير في هذا الشيء الذي ينتجه جسمي ثانياً، هذه الخصلات التي تخرج من رأسي وتمتدّ طولاً بحسب رغبتي، إلى أذنيّ، أو كتفيّ، أو منتصف ظهري، والتي يرتكز عليها الكثيرون لتكوين صورتهم عنّي. لم يأبه أبي للصورة على ما أعتقد، أراد أن يبقى شعر ابنته كما هو، بغضّ النظر عمّا يظنّه الآخرون، كما أنه كان يجده جميلاً وكان هذا يكفي.

ذات يومٍ، قبل عشرة آلاف عام ربّما، في اليونان القديمة، كان الشعر المجعّد رمزاً للجمال. كانت الآلهة، إناثاً وذكوراً، تُصوَّر بشعورٍ تتفاخر بكلّ برمةٍ فيها. أن يكون لك شعراً مجعّداً كان أمراً مرتبطاً بإظهار قوّتك وجمالك. وهكذا كانت هيرا، زوجة زوس، صاحبة شعرٍ كلّ خصلةٍ منه مُلَكلكَة على حدة. وكانت أثينا، إلهة الحكمة والقوّة وإلهة الحرب، تظهر تجعيدات شعرها من تحت القلنسوة التي تعتمرها. أمّا في الحقبة الفلافية، أيام الرومان، فكانت النساء يزيّنّ شعورهنّ على شكل حلقاتٍ، في دلالةٍ إلى الطبقة الاجتماعية العليا.

ثم جاءت القرون الوسطى، ومعها ازداد اهتمام الرجال والنساء سواسيةً بالشعر، كإشارةٍ واضحةٍ إلى المركز والطبقة الاجتماعيين. من رأسك يقدّرون مدى السلطة التي تتمتّع بها. من شعرك يقيسون وزنك الاجتماعي. وهكذا ثابرت أهميّة الشعر على التعاظم، لا سيما في الغرب، حيث حُمّل معانيَ كثيرةً كانت تنتشر داخل كلّ مجتمعٍ فيلتزم الكلّ بها، علماً أن المجتمعات الدينية كانت تدفع بالنساء إلى تغطية شعورهنّ بأشكالٍ مختلفة عند الخروج من المنزل.

إلى أن كانت حقبةٌ امتدّت حوالى أربعمئة عام، كان الشعر المجعّد فيها حكراً على الأغنياء الذين تفنّنوا في تصفيف شعورهم المستعارة. أن تولد بشعرٍ كورلي، من دون أن تكون غنيّاً، كان أمراً مرفوضاً تماماً، لذا توجّب على الفتيات إخفاء شعورهنّ تحت أقمشةٍ أو غيرها، أو ربطها على شكل كعكةٍ مشدودةٍ بحيث تختبئ تجعيدات الشعر. وظلّ الشعر في تلك الفترة الممتدّة حتى نهاية القرن التاسع عشر، سمةً جماليةً أساسيةً تحدّد مدى جاذبيّة المرأة، ومظهراً يعكس خلفيّتها الثقافية ويشكّل جزءاً أساسياً من هويّتها.

ثم اخترع مصفّف الشعر الفرنسي، مارسيل غراتو، أداةً لتمليس الشعر العام 1872، فتهافتت النساء على صالونه، وتوسّع انتشار موضة الشعر الأملس مع الفنانات والمشاهير، فانتشرت في أنحاء العالم. علماً أن جذور فكرة تمليس الشعر، تعود إلى النساء المصريّات اللواتي كنّ يستخدمن ألواحاً حديدية مسطّحة ساخنة على شعورهنّ، لكنها كانت طريقة خطرة فلم يشع استخدامها كثيراً آنذاك. كان هدف غراتو الأساسي تمليس شعور النساء والرجال السود، لكن استخدام مملّس الشعر الحديدي راج لدى الأعراق كافة.

ومرّ الزمن وتلاحقت الأيام، من ثورة السود، "وودستوك"، الهيبيز والتسعينات التي شهدت شعوراً كثيرةً منكّشةً، فالقرن الحادي والعشرين، فثورة فايسبوك، إلى ذاك اليوم الذي دخلت فيه عيادة معالجتي وكان شعري مملّساً على غير عادة. "واو"، قالت لي وهي واقفة على الباب. "أرأيتِ كم يعطيكِ هذا الشعر الأملس نعومةً ووداعة؟ أنصحك بالمحافظة على شعرك أملس كي تعطي انطباعاً ألطف وتثيري حفيظة الرجال بشكلٍ أقلّ". صُدِمت عند الباب وبهتت ملامحي. قبلها بفترةٍ قصيرةٍ كان ناطور البناية لديها قد بالغ في الاقتراب جسدياً منّي في المصعد، فصدّيته وأعلمتها بما حدث، كما أنها كانت تعرف ما مررتُ به من محاولات تحرّشٍ متكرّرة نجوتُ منها بثبات. عندما سمعت تعليقها عن شعري، تردّدت في الدخول لكنني كظمتُ غيظي، ودجّنتُ نفسي ودخلت. ساعة كاملة وأنا أحاول أن أحكي وأناقش أوضاعي النفسية والعاطفية وغيرها، لكني لم أكن أفكّر سوى في جُملة المعالجة التي ارتضت لي أن أغيّر شكلي حفاظاً على ما ارتأت أنه سبب محتمل للتحرّش بي، ورحت أتخيّل نقاشاً طويلاً بينها وبين أبي.... أو مجرّد جملةٍ واحدةٍ يرميها في وجهها بكلّ ثقة: "كيف يمكن لمن تكون له خصلاتٌ مُلَكلَكةٌ جميلةٌ أن يبذل جهداً ليفقِدها جمالها؟!".

اليوم، بعد حوالى عشر سنواتٍ على حادثة المعالجة، غدا الشعر الكورلي صيحة موضة حديثة، وانتشرت المواقع التي تُعنى بتميّزه وتسوّق له، كما انتشرت الصفحات التي تعلّم صاحبات الشعر المجعّد كيفية الاعتناء به، وأصبح هناك مصفّفو شعرٍ متخصّصين في الشعر الكورلي ومنتجات خاصة للعناية بالشعر المجعّد. أقبلت الفتيات على تجعيد الشعر والتفاخر به، ولم تعد صاحبة الشعر المُكَلكَل تُشبّه بالماعز أو الغنم. من ناحيتي، لم أملّس شعري منذ تلك الحادثة، وقطعت علاقتي بتلك المعالجة بطبيعة الحال، والأهمّ أنني، وأبي، ما زلنا وسنظل أبداً نحبّ شعري. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها