الإثنين 2020/08/31

آخر تحديث: 20:58 (بيروت)

لقاء فيروز-ماكرون: استنساخ لبناني لاستراتيجيته الإعلامية في فرنسا

الإثنين 2020/08/31
لقاء فيروز-ماكرون: استنساخ لبناني لاستراتيجيته الإعلامية في فرنسا
فيروز في باريس
increase حجم الخط decrease
في زيارته الثانية إلى لبنان، خلال أقل من شهر، لم يتردد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في اللجوء إلى الخطة الإعلامية ذاتها التي يعتمدها للتسويق لنفسه في الداخل الفرنسي. التوجه إلى منزل فيروز كأول محطة له، يندرج في سياق طبيعي لاستراتيجية إعلامية بلورها خلال حملته الرئاسية العام 2017 ومستمرة لغاية اليوم.

يختلف ايمانويل ماكرون، عن أسلافه، في إدارة ماكينته الإعلامية وعلى وجه الخصوص نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند. 

فخلال ولايته، أشبع ساركوزي السلطة الرابعة بالتصريحات والإطلالات والمقابلات على نحو أرهق الفرنسيين. من ناحيته، تميز هولاند بتواصله الدائم مع الجسم الإعلامي ما أدى إلى فقدانه السيطرة على زمام الأمور، فكانت صورته الاعلامية ترسم في أروقة الصحافة ووسائل الاعلام وعلى النحو الذي يروق لهم بدلاً من أن يحدد ملامحها بنفسه. 

ماكرون استخلص العِبَر من هاتين التجربتين إلى جانب أخذه في الاعتبار الثورة التي أدت إليها، وما زالت، وسائل التواصل الاجتماعي.

عزز الرئيس الشاب نشاطه الافتراضي، بالتوازي مع ابتعاده عن الإعلام التقليدي (من دون نبذه بالكامل) كي يبقى سيد اللعبة. سعيه لأن يكون قريباً قدر الإمكان من الفرنسيين، دفع بفريق عمله لمتابعة الآراء المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي بصورة معمقة لإبقاء ماكرون على تماس مع "نبض الشارع".     

وبعيداً عن مدى نجاح هذه الاستراتيجية على الصعيد الداخلي الفرنسي، من الواضح أن الرئيس الفرنسي استعد لزيارته الثانية إلى لبنان مصطحباً معه الأدوات ذاتها. 

فما علق في أذهان اللبنانيين إبان الزيارة الماكرونية الأولى، كانت جولة الرئيس الفرنسي في موقع الانفجار والأحياء المتضررة، كما احتكاكه المباشر باللبنانيين ورسائله الحازمة للقوى السياسية اللبنانية. خاطب ماكرون الشارع اللبناني الذي، ورغم مواقفه المتباينة من الحركة الدبلوماسية الفرنسية، يُجمع على أن باريس لاعب مؤثر في الساحة الداخلية. 

أن يهبط الرئيس الفرنسي في بيروت للمرة الثانية في أقل من شهر، ويستهلها بلقاء غير رسمي، يحمل في حد ذاته دلالة على أن الزيارة الثانية لن تختلف عن التي سبقتها (أقله على المستوى الشكلي) لناحية إعطاء الأولوية للبنان الشعبي وليس لبنان الرسمي. فباريس تدرك، بلا أدنى شك، طبيعة الانقسام اللبناني بعد 17 تشرين و4 آب.

من جانب آخر، فإن اختياره فيروز، كعنوان لمحطته الأولى، محاولة منه للإيحاء بإلمامه بتطلعات اللبنانيين. 

بغض النظر عن موقف أيٍ لبناني من فيروز (فنياً و/أو شخصياً) إلا أنها رمز من رموز هذا البلد. ولا مبالغة في القول بأن جزءاً من معجبيها يحلم بلقاء صاحبة الصوت الذي سحره، وشكّل ذكرياته وذاكرة جماعية، حميمة ووطنية، خصوصاً بعدما بلغ الأمر حد تقديسها وتأليهها من قبل فئة من جمهورها. لكن المؤكد أن فيروز، حتى في أحلك فترات الحرب الأهلية، ظلت فوق الانقسامات، ومعبودة المتاريس كافة.

وينطوي ظفر ماكرون بهذا اللقاء على رسالة مفادها أن الرئيس الفرنسي يشارك اللبنانيين في رغباتهم. ما يشير، على نحو غير مباشر، إلى إدراكه لماهية مطالبهم السياسية. 

هو استمرار لاستراتيجية إعلامية هدفها التقرب من الشارع اللبناني، خصوصاً أنه تحلو لشريحة من اللبنانيين رؤية فيروز خارج كل الانقسامات السياسية (سواء صحّ هذا الاعتقاد أم لا) حتى قيل إن الميليشيات لم تتوحد إلا على أغانيها.  

ويجوز التوقف كذلك عند توقيت الزيارة أي عشية مئوية ولادة لبنان الكبير. ففيروز والرحابنة ساهموا في رسم صورة "تراثية -فولكلورية" للبنان (القرية، المختار، الدبكة...) ليتحولوا في نظر شريحة من اللبنانيين إلى مرادف "للزمن الجميل" الذي يحنّون إليه اليوم مع تتالي الانهيارات. في المقابل، في الإمكان مقاربة المسألة من زاوية مغايرة، أي إحياء ماكرون لكليشيهات سأمها اللبنانيون.
     
ولم يتردد رواد مواقع التواصل الاجتماعي في التندر على هذه الزيارة، كالقول إن ماكرون سيساعد فيروز على كشف مصير "شادي". 

أياً يكن مضمون الحديث الذي سيدور بينهما، ما يهم ماكرون في نهاية المطاف هي الصورة إلى جانب فيروز حصراً. فرضية تدعمها التسريبات التي أشارت إلى أن لقاء ماكرون - فيروز سيبقى بعيداً من عيون الصحافة وسيتم الاكتفاء بالصور الفوتوغرافية. 

رغم الحديث أن ترتيب الزيارة على هذا النحو أتى برغبة من الرحابنة، لكن من الخطأ التصور أن المحيطين بفيروز فرضوا الأمر على الرئيس الفرنسي. فمن ركائز "الاستراتيجية الإعلامية الماكرونية" التسريب، بين الحين والآخر، لمقاطع مصورة وصور فوتوغرافية تظهره في الكواليس. لم تحمل تلك التسريبات أي مضمون، الغاية كانت ظهوره في صورة الغارق في العمل الرئاسي لتطغى الصورة على المضمون. 

ومثلما أدت هذه الاستراتيجية إلى تآكل في شعبيته، قوبلت أيضاً في لبنان بانقسام بين من تلقفها بإيجابية وذهب إلى حد مطالبة فيروز بمصارحة الرئيس الفرنسي حيال الواقع اللبناني، ومن اعتبرها دعاية رخيصة من قبل ماكرون. 

التفاعل مع هذا اللقاء المرتقب فتح الباب على تساؤل مفاده: ما سبب تلبية فيروز لرغبة الرئيس الفرنسي بلقائها وهي المعروفة بابتعادها عن الاعلام وظهورها النادر في الأمكنة العامة؟

في الواقع ارتبطت فيروز بعلاقات قديمة مع فرنسا: من البرامج الفنية التي كانت تطل من خلالها على الشاشة الفرنسية، إلى حفلة الأولمبيا التي أقامتها في باريس العام 1979، وذِكر عاصمة الأنوار في عدد من أغانيها، وصولاً إلى منحها أرفع الأوسمة الفرنسية. 
 
لكن في الإمكان مقاربة الموضوع من زاوية إضافية: التغريدات التي تطرقت إلى كسر عزلة فيروز على يد ماكرون، تشير إلى توق شريحة من معجبيها لإطلالة فيروزية في مثل هذه الظروف، خاصة بعد الفيديو الأخير (الذي أثار جدلاً حول "دينية" ظهورها، وتقدّمها في السن، وإدارتها من قبل ابنتها ريما التي لا تتمتع بالكفاءة اللازمة، في مقابل المغتبطين باكتشاف جانب صغير من خصوصية بيروت ومنزلها، الخ..) حيث ظهرت من منزلها وهي تقرأ آيات من سفر المزامير في عز جائحة الكورونا.

وعليه، من المحتمل أن تكون فيروز قد وجدت في زيارة ماكرون مناسبة للإطلالة على معجبيها، خصوصاً إذا كان كسر العزلة سيترافق مع نوع من التعويض عن علاقات سياسية افتقدتها في الآونة الأخيرة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها