الثلاثاء 2020/08/25

آخر تحديث: 17:21 (بيروت)

ياسر العظمة.. صمتك كان أفضل من بَوحك!

الثلاثاء 2020/08/25
ياسر العظمة.. صمتك كان أفضل من بَوحك!
increase حجم الخط decrease
عندما عبرت أليس، حفرة الأرنب في رواية لويس كارول الشهيرة، كانت تفتح باباً من عالم الركود اليومي نحو عالم الفوضى غير المتناهية في الجانب الآخر حيث تعيش ملكة دموية متعطشة للسلطة. وبالطريقة نفسها، كان بإمكان الممثل السوري ياسر العظمة، المختفي وراء ركود دام سبع سنوات، الإطلال على أرض العجائب التي حملت في أحد الأيام اسم سوريا، عبر برنامجه الجديد "حطوا القهوة ع النار" في "يوتيوب"، لكنه اختار البقاء في الحيز الضبابي، بتقديمه قصيدة شعرية ركيكة، تميل إلى التلميح بدلاً من التصريح.


وبغض النظر عن المجازر اللغوية التي ارتكبها العظمة، الذي يوصف عموماً بأنه "فنان مثقف"، في قصيدته "إن رضيت دمشق"، فإن القصيدة نفسها لم تأت بجديد، حتى بأغلاطها التي يمكن رصدها في التمهيد لها قبل نحو أسبوع، عندما خلط العظمة في بيت شعر قاله بين الفيلسوف ابن خلدون والشاعر ابن زيدون. وبدت بصياغتها الكلاسيكية كأنها تلخيص لمسيرة العظمة الفنية الطويلة التي بدأت العام 1963 ونال فيها شهرة واسعة بفضل سلسلته الشهيرة "مرايا" التي كانت بداية لأسلوب اللوحات الكوميدية المنفصلة في الوطن العربي منذ العام 1982، وطوال 19 موسماً كان آخرها العام 2013.

ومع خلو القصيدة من أي موقف سياسي أو اجتماعي، وميلها للإنشاء واجترار العواطف، خصوصاً في أبياتها الأخيرة التي اعتذرت من "دمشق عاصمة الزمان" وترافقت مع موسيقى حزينة مبتذلة وأضواء باهتة أقرب للأبيض والأسود، يمكن فهم التجاذبات التي حصلت لاحقاً، من السوريين، الذين رأوا فيها تعبيراً عن مواقفهم السياسية المتباينة من كل ما يجري في سوريا ضمن فئتي الموالاة والمعارضة، فبعض الأبيات فيها يمكن تفسيرها بأنها انعكاس لجائحة فيروس كورونا فقط، وأبيات أخرى تبدو نقداً للواقع الثقافي والفني المتردي في البلاد، وأبيات أخرى تبدو وكأنها نقد للسلطة الحاكمة والمسؤولين الفاسدين، لكن كل تلك الأبيات تبقى هلامية وبعيدة من إحداث أي تأثير، كما أنها ببرودها غير قادرة على إغضاب السلطة، مثلما ينبغي للفن الناقد القيام به في الظروف المثالية عندما يتحدث عن تفاصيل لا يتحدث عنها أحد خوفاً من الملاحقات الأمنية وبطش السلطة.


وطوال مسيرته لم يكن العظمة (78 عاماً) شديداً في نقده للنظام السياسي في سوريا، بقدر ما يتخيل معجبوه، بل كانت "مرايا" مشروعاً يقوم على اقتباس كثير من القصص والمسرحيات العالمية وتحويلها إلى نسخ عربية ساخرة تحمل في طياتها قليلاً من النقد العام للحياة السياسية والاجتماعية من دون مقاربتها بجدية أو عمق. وإن كان ذلك كافياً في سنوات الثمانينيات والتسعينيات لإطلاق صفة الجرأة على العظمة، عطفاً على القبضة الأمنية المرعبة لنظام حافظ الأسد حينها وسيطرته على المجال العام كلياً، فإنه لم يعد كافياً اليوم لنيل الإعجاب، بعدما كسرت مواقع التواصل الاجتماعي الحدود التقليدية للتعبير من جهة، وحطمت الثورة السورية قبل 10 سنوات جدران الخوف القديمة لدى ملايين السوريين من جهة ثانية، ما قادهم للحديث عن تجاربهم الشخصية مع النظام الحاكم وظروف الحياة اليومية، بشكل مباشر، أو عبر أعمال فنية متنوعة.

وتحيل حالة التبجيل الملحوظة للعظمة في مواقع التواصل، ومحاولة شده من قبل المعلقين إلى جانبهم السياسي، إلى أسئلة حول السبب الذي يجعله وكأنه في مرتبة أعلى من بقية زملائه الفنانين. فمثلاً ينال الممثل السوري دريد لحام (86 عاماً) ملاحظات حتى قبل العام 2011، بأنه يقدم الكوميديا الناقدة التي تمتص غضب الشارع، وإعطاء انطباع زائف بوجود حريات وهامش للنقد في البلاد، ما يستوجب الاحتقار. وهو اتهام يمكن توسيعه ليشمل العظمة أيضاً، خصوصاً أن شهادات لفنانين وممثلين معارضين، من بينهم المخرج مأمون البني، أفادت بسطوة أجهزة المخابرات على سلسلة "مرايا" وتحكمها حتى في الأسماء المشاركة في السلسلة.

وبالطريقة نفسها، يتبرأ الجمهور السوري عموماً من مسلسلات الدراما العربية المشتركة، ويعبر كثيرون عن اشمئزازهم من ضحالتها الثقافية، عطفاً على اقتباسها بشكل مشوه من مشاريع عالمية "لا تشبه الواقع العربي". وهي ملاحظة يمكن المجادلة بأنها تشمل العظمة بشكل أو بآخر، حيث قامت سلسلة "مرايا" عموماً على اقتباسات من أدباء ومسرحيين عالميين، مثل التركي عزيز نيسن والروسي أنطون تشيخوف مع نقلها ليس إلى سوريا، بل في كثير من الأحيان إلى عالم مواز غير محدد، يتم فيها اختراع لهجات خليطة بين عدة لهجات عربية ومحلية، ما يفقد النقد المبطن فيها تأثيره وجدواه.


وللإجابة عن هذه الأسئلة، ربما لا يجب النظر إلى ما قدمه العظمة من أعمال فنية، بل إلى الطريقة التي يقدم بها نفسه إلى الجمهور، وكيف ينجح، عن قصد أو من دون قصد، في اللعب على ثيمات تستميل الجمهور المحافظ في سوريا والمنطقة العربية. فمن جهة هو الرجل الذي يمارس دكتاتورية فنية لا تقل سطوة عن أي دكتاتورية سياسية حاكمة ضمن مجتمعات ذكورية وأبوية. ومن جهة ثانية هو الفنان المتزن والرزين الذي لا يدخل في مهاترات ولا يجري مقابلات ولا يطل عبر الإعلام، بل يترك مسافة بينه وبين الآخرين، وكأنه يعيش في مكان أسمى من زملائه "التافهين". ومن جهة ثالثة هو الفنان الملتزم دينياً ليس فقط من ناحية انتمائه لعائلة من الطائفة السنية التي تشكل الغالبية في سوريا والكثير من الدول العربية، بل أيضاً من ناحية حجاب زوجته التي تنتشر لها صور من حين إلى آخر عبر مواقع التواصل.


وإن كانت آخر مقابلة صحافية للعظمة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما هاجم الممثل المصري عادل إمام، من دون تسميته مباشرة، عطفاً على خياراته الكوميدية الجوفاء الخالية من أي بعد اجتماعي، بشكل يجسد متلازمة "الفنان المثقف" التي أفرزتها التربية البعثية التي صاغت مفاهيم الحياة في سوريا طوال عقود، فإن خيارات العظمة الفنية تعزز الصورة التي رسمها لنفسه أمام الجمهور. فسلسلة "مرايا" تعج بالحلقات القائمة على السجع وأسلوب الحكواتي والقص الشعبي والشعر العربي وغيرها من الأساليب التي تستجر الماضي وتمجده، بما في ذلك قصيدته الكلاسيكية، في حقبة زمنية بات فيه هذا النوع من الأدب موضة قديمة لا يجب إحياؤها.

وهكذا، تصبح عودة العظمة خالية من المعنى، ولعل سكوته الذي فتح باب التكهنات بشأن موقفه الإنساني والسياسي كان أفضل من بوحه، في بلد شهد أكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. أما التباكي على دمشق والوقوف على أطلالها الغابرة، فلا يسمن ولا يغني من جوع، بل هو إعادة تدوير للتورط العاطفي بالانتماء للوطن السوري بمفهومه البعثي، والذي أثبتت السنوات العشر الماضي، أنه ليس إلا وهماً رومانسياً مع تحول البلاد إلى كانتونات طائفية وإثنية متصارعة، تشكل كل منها هوية أكثر رسوخاً من الهوية السورية التي تغيب بسبب انتفاء قيمة المواطنة ضمن النظام السياسي السوري منذ عقود.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها