الأحد 2020/08/02

آخر تحديث: 20:18 (بيروت)

ماكرون تحت النار بسبب العزم على إغلاق ملف الجزائر

الأحد 2020/08/02
ماكرون تحت النار بسبب العزم على إغلاق ملف الجزائر
increase حجم الخط decrease

 

رغم مرور 58 عام على استقلال الجزائر عن فرنسا ورغم كل ما بذل من جهود للتقارب بين البلدين، إلا أن ملف الحقبة الاستعمارية لم يطوَ بعد، ولم يصل الطرفان إلى المصالحة المنشودة.

يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تحقيق اختراق في هذا الملف.. فخلال حملته الانتخابية عام 2017 صرح من الجزائر بأن الاستعمار الفرنسي كان "جريمة ضد الانسانية. كلامه لم تسبقه إليه أي شخصية رسمية فرنسية. وبعد توليه مهامه الرئاسية اعترف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مقتل موريس أودان إبان حرب التحرير الجزائرية، كما أعاد للجزائر جماجم مقاومين احتفظت بهم فرنسا طيلة 170 عاماً.

ويبدو أن ماكرون عازم على المضي قدماً في هذا الملف بعدما كلف في 24 تموز/يوليو الفائت المؤرخ المتخصص في العلاقات الجزائرية – الفرنسية، بنجمان ستورا، بإعداد تقرير يستعيد ما تم إحرازه من تقدم بين البلدين على مستوى "ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر". وطُلب أيضاً من ستورا رفع توصيات حول سبل تعزيز المصالحة بين "الشعبين الفرنسي والجزائري".

من جهتها، كلفت الرئاسة الجزائرية عبد المجيد شيخي، المدير العام لمركز الأرشيف الوطني، كممثل لها لمشاطرة هذه المهمة.

وتباينت مواقف الشارع الفرنسي حيال تكليف ستورا في مواقع التواصل الاجتماعي. ففي موازاة الإشادة بتعيينه وبكفاءته الأكاديمية، عبّرت شريحة واسعة عن امتعاضها ليس فقط من الخطوة بحدّ ذاتها، بل من اختيار ستورا على وجه التحديد: فتسمية هذا المؤرخ المعروف بميوله التروتسكية رأى فيها البعض استفزازاً، مشككين بموضوعيتيه.

حتى أن جيلبير كولارد، عضو البرلمان الأوروبي عن حزب التجمع الوطني، اتهم ماكرون بالخنوع من خلال هذا الانحياز الأيديولوجي. فمن المعروف أن أقصى اليسار الفرنسي ينبذ التاريخ الاستعماري لفرنسا، توجه قد يعززه ستورا.  

في المقابل، تجوز مقاربة هذا التكليف من زاوية مغايرة: الرئيس الفرنسي كلّف شخصية أكاديمية بهذه المهمة، ما يشكّل اعترافاً ضمنياً بمساهمة المؤرخين في كتابة هذه الصفحات من التاريخ. هي مساهمة دفعت، في السنوات الأخيرة، نحو الاقرار بوجود فصول سوداء.

من جهة أخرى، بدا ان غياب التماهي السياسي بين ماكرون وستورا دليل على جدية الرئيس الفرنسي حيال هذا الملف. فقدرة ماكرون على التأثير على هذا المؤرخ محدودة جداً خصوصاً بعدما صرح ستورا في مقابلة مع الموقع الالكتروني لإذاعة RFI أنه ليس ممثلاً للدولة الفرنسية ولم يُطلب منه التعاون مع الجانب الجزائري، مضيفاً أنه من الصعب كتابة تاريخ مشترك بين البلدين لكن بالإمكان التوصل إلى قواسم مشتركة تمهّد لإحلال "سلام الذاكرة".

 

إعتذار موعود

الجدل الفرنسي حيال أهلية بنجمان ستورا للاضطلاع بهذه المهمة، ليس إلا جزءاً من إشكالية أوسع: لماذا تمتنع فرنسا عن تقديم الإعتذار للجزائر؟ اعتذارٌ من شأنه تضميد هذا الجرح المفتوح.

في الواقع، تختلف علاقة فرنسا بالجزائر عن علاقتها بمستعمراتها السابقة: صُنفت الجزائر كجزء من الأراضي الفرنسية (مع اعتبار أصحاب الأرض الأصليين مواطنين من الدرجة الثانية). بالتالي، كان انتزاع الجزائريين لاستقلالهم مرادفاً لخسارة أرض فرنسية، حتى أن فئة من الفرنسيين تصف ما جرى بالحرب الأهلية. لغاية اليوم ليس من الصعب الاصطدام بفرنسيين يعبرون عن رفضهم لاستقلال الجزائر ولو على نحو غير مباشر: كالادعاء بأن الوجود الفرنسي في الجزائر كان يمكن إصلاحه وتحويله إما إلى نموذج يحتذى به في العلاقة بين ضفتي المتوسط أو إلى فسيفساء عرقية تجمع إلى جانب الأوروبيين العرب والأمازيغ. 

 على خط مواز، مثلما تُتهمُ فرنسا بارتكاب جرائم خلال تلك الحقبة (مجازر، تعذيب، إخفاء قسري ...)، لا تتردد شريحة من الرأي العام الفرنسي في اتهام جبهة التحرير الوطني بارتكاب جرائم مماثلة ضد العسكريين والمدنيين الفرنسيين. فهذه الشريحة لا تتخذ دوماً وضعية الدفاع، بل تبادر إلى الهجوم والتساؤل عما إذا كان الجانب الجزائري مستعداً لاعتراف مماثل بهذه الجرائم، بل وتسوّق لإيجابيات تلك الحقبة متغنية بالتنمية التي عرفتها الجزائر.

والمقصود بالمدنيين في هذا السياق "الأقدام السوداء"، وهم فرنسيون ولدوا وعاشوا في الجزائر طوال سنوات حتى بلغ عددهم المليون نسمة عشية استقلال البلاد واضطروا إلى مغادرتها في العام 1962 خوفاً من الأعمال الانتقامية رغم الحماية التي ضمنتها لهم اتفاقيات إيفيان.

الأقدام السوداء الذين عايشوا تلك الحقبة ما زال بعضهم على قيد الحياة، كما بادرت فئة منهم إلى إنشاء جمعيات أهلية داخل فرنسا لتنظيم أنشطة سنوية ولنقل هذا "الإرث" إلى الأجيال الجديدة حتى تتحول تجربتهم إلى جزء من الذاكرة الفرنسية.   

وعليه، بات يصعب على أي سياسي القفز من فوق "معاناتهم": حين وصف ماكرون الاستعمار بالـ "جريمة ضد الانسانية"، قوبل موقفه باعتراض شديد من الأقدام السوداء الذين طاردوه خلال جولاته الانتخابية موجهين إليه تهمة الخيانة والاجحاف بحق معاناتهم، ما أجبره على التخفيف من حدة لهجته لسحب فتيل الأزمة.

ولا تتوقف الاتهامات عند هذا الحد، فاصرار السلطات الجزائرية على اعتذار فرنسي يهدف برأيهم الى كسب شرعية داخلية في الجزائر، فهي القضية الوحيدة التي تحظى بإجماع شعبي. 

النقطتان المذكورتان أعلاه، "الجزائر الفرنسية" و"الأقدام السوداء"، تدلان على أن الشعب الفرنسي مسكون بالتاريخ. مسألة تؤكدها دراسة أجرتها مجلة Historia في آذار/مارس 2019 وأظهرت أن 76% من الفرنسيين يبدون اهتماماً بتاريخ فرنسا أكثر من اهتمامهم بالتاريخ العالمي أو حتى بتاريخ عوائلهم. وأشار 53% من الفرنسيين الذين شملتهم الدراسة إلى أن نظرتهم وتقييمهم للأحداث لم يتغير بمرور الزمن. وحين طُلب منهم تسمية شخصية جسدت تاريخ فرنسا، حل نابليون بونبارت في المركز الأول، تلاه لويس الرابع عشر وشارل ديغول. شخصيات ثلاث يجمعها قاسم مشترك: تحويل فرنسا إلى قوة عظمى وإن شهدها التاريخ في فترات زمنية متفرقة.

وليس من المبالغة القول إن فئة غير قليلة من الفرنسيين لم تتقبل حتى اليوم انحسار النفوذ العالمي لبلادهم، ما يعزز الحنين إلى ذاك المجد المفقود ويغذي شوفينيتهم. موقف يؤكد نتائج دراسة مجلة Historia ويشير إلى عدم استعداد الفرنسيين لمراجعة "الحقبات المجيدة" من تاريخهم، وهي مراجعة قد تفضي إلى اصطدام بقيم جمهوريتهم: الحرية، المساواة، الإخاء.

علاوة على ذلك، تورطت جل الأحزاب، يمينية كانت أو يسارية، في ذاك النزاع. ما يعني أنه رغم انصرام 58 عاماً على الاستقلال، لم يجد أي حزب مصلحة في فتح هذا الملف وإن للمزايدة على الخصم وتسجيل نقاط سياسية.

واقع الحال يشير إلى وجود مخزون من الحجج المضادة لدى الجانب الفرنسي، ما يعني أن أي خطوة سياسية في هذا الملف ستؤدي إلى اصطدام مع شريحة من المجتمع والرأي العام الفرنسيين. وما يزيد الطين بلة وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت لأي مغرد المزايدة في هذا الملف من خلال تقديم روايته الخاصة . 

 بالمحصلة، أدى هذا الواقع إلى شرخ بين البلدين، فما الذي تغير اليوم حتى يسعى إيمانويل ماكرون إلى "إصلاح ما أفسده الدهر" ؟  

ماكرون عازم على إغلاق الملف

ينتمي الرئيس الفرنسي إلى جيل جديد لا يجد حرجاً في اعتماد الرواية التاريخية كرواية رسمية. حتى على المستوى السياسي، يتربع ماكرون على رأس حزب حديث العهد لم يتورط في ذاك الصراع، ما يسهل عليه المضي قدماً نحو إغلاق هذا الملف.

من ناحية أخرى، يتبنّى ماكرون مقاربة مغايرة للمصالح الفرنسية، مقاربة ترى أن بين فرنسا والجزائر الكثير من القواسم المشتركة التي بالإمكان استغلالها إن على الصعيد الاقتصادي أو في ما يخص التعاون في مجال الطاقة. حتى على المستوى الأمني، لفرنسا مصلحة استراتيجية في التنسيق مع هذا البلد الذي يمتلك حدوداً مشتركة مع ليبيا ومالي، إلى جانب مكافحة الهجرة غير الشرعية. وعلى الصعيد الداخلي الفرنسي، فإن إغلاق هذا الملف من شأنه المساهمة في قطع الطريق على التنظيمات الجهادية في استغلال ذاك الشرخ للتعبئة الفكرية وتجنيد فرنسيين من أصول جزائرية يعانون من أزمة هوية. وعليه، من الملح طي هذه الصفحة والتطلع إلى المستقبل وفقا للتوجه الذي يتبناه ماكرون.  

بعيداً عن مدى مصداقية "المظلومية الفرنسية"، هناك حقيقة لا مفرّ من الاعتراف بها: فرنسا كانت القوة الاستعمارية التي حكمت الجزائر طوال 132 عاماً ما يفرض عليها المبادرة وإبداء حسن النوايا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها