هذه الرؤية الفنية التي تُعرّف الالتزام بوصفه انضباطاً لا يخرج عن الذائقة العامة والمعتقدات الاجتماعية السارية، تجعل يوسف الشريف ينتقي أعماله دائماً بما يؤصّل للرؤية الشعبوية التي تعتبر أن للفن بابين. الأول، خراب ينفتح على الجحيم. والثاني، يقود بالضرورة إلى الجنة. لذلك فإنه لا يلتزم فقط بتقديم ما لا يخدش حياء جمهوره أو يعارض معتقداته الدينية والسياسية، وإنما يغترف كذلك من مخياله الجمعي ليشيد عوالمه الدرامية، فيكون طبيعياً أن يفسر قدراته الخارقة وأفعاله الشريرة بصفقة أبرمها مع الشيطان في "كفر دلهاب"، أو أن يتنبأ بفناء قوتي الشر الأعظم في عالمه الجديد المستقبلي الذي يؤسس له في "النهاية"!
لكن ما يقدمه الممثل المصري من نصوص تغازل العاطفة الشعبية، كهدف رئيس على حساب الدراما، يقوض ما يمكن أن ينتجه الخيال في إطار أرحب، لأن هذا سيصطدم بالتأكيد مع ذائقة جمهور يعتبر العناق في الشاشة تحريضاً على الفِسق، لذلك فهو لا يغامر بخلق عوالم جديدة، وإنما يبحث عن ضالته في ما تتيحه له الذاكرة السينمائية والدرامية من عناصر ثبت نجاحها في أعمال أسبق، ثم يعيد ربطها في عالم هجين عبر أسئلة ساذجة.
وربما يكون ذلك أشد تأثيراً عند تقديم الخيال العلمي بوصفه فناً يغوص عميقاً لطرح أسئلة فلسفية تتعارض، في كثير من الأمثلة الأنجح على المستوى العالمي، مع العقلية المحافظة. وهو ما تكشف عنه بالضبط الحلقات الأولى من المسلسل الجديد "النهاية"، من إنتاج شركة "سينرجي" وإخراج ياسر سامي، وكتابة عمرو سمير عاطف عن فكرة صاغها الشريف بنفسه.
أطروحات طفولية
في الحلقة الأولى يظهر زين (يوسف الشريف) وهو يستعرض عالمه التكنولوجي الفارق، بعد دمار أصاب البشرية التي خاضت حروباً كثيرة غيرت وجه العالم وأدت إلى فناء قوتَي الشر فيه، وهما بحسب المسلسل: إسرائيل والولايات المتحدة، واعتماداً على العاطفة لا غير، تجري أحداث المسلسل في القدس بعد تحريرها. لكن الدراما لا تقدم في الوقت نفسه أي تفسيرات، عن الكيفية التي تم بواسطتها تحرير فلسطين قبل أن تحتلها مصر! فجميع من يعيش في القدس يتحدث العامية المصرية بطلاقة، ولا وجود لأي ألسنة عربية أخرى، وكأن مصر التي حررت فلسطين، في ما يبدو، قررت أن تفرض لغتها وعاداتها على المدينة المقدسة، كمقابل لما بذلته في سبيل استقلالها! أو ربما من افتراض أن مصر باتت الدولة المهيمنة على العالم، ويتحدث سكان الكوكب لغتها مثلما يتحدث الناس اليوم اللغة الإنجليزية!
ورغم أن المسلسل تجري أحداثه في العام 2120، فإن التقدم التكنولوجي والدمار الهائلين الذين لحقا بالبشرية، قد يحتاجان أكثر من مئة عام لحدوثهما، حيث أن التكنولوجيا الظاهرة في الشاشة هي في الأساس تكنولوجيا رفاه لا تستقيم مع مقدار الحروب التي يتحدث عنها المسلسل، فكيف لعالم خاض تلك الأهوال كلها أن ينتج هذه الرفاهية، من شاشات قادرة على تحليل القدرة الذهنية والصحية للشخص بمجرد لمسها، وتستطيع الاتصال بأي كان بمجرد ذكر اسمه، فيما تقود السيارات نفسها إلى الوجهة المطلوبة من دون أي عناء. وكان الأمر ليكون أكثر واقعية لو ظهر ذلك الدمار مقترناً بالأسلحة المدمرة من دون الحياة المتطورة التي تذكر بمشاهد فيلم "Equilibrium" لـ"Kurt Wimmer".
كذلك يبدو غير مفهوم، بعد دمار قوى العالم الغربي، أن تظل صورة التكنولوجيا مقترنة باللغة والحرف اللاتينيين كما يظهر مراراً على الشاشة مع كل أمر يتم إدخاله أو إخراجه من الآلة المتطورة التي تُسير الحياة في "النهاية". لكن ذلك كله يمكن استيعابه من النباهة التي أظهرها الشريف عند التحدث لتلاميذه عما وصفه بـ"ترشيد التقدم العلمي لخدمة الاقتصاد"، حيث يرى أن الهاتف المحمول الذي صار قادراً مع الزمن على التقاط الصورة ثم التحول إلى سلاح فتاك، كان من الممكن إنتاجه للمرة الأولى كسلاح قاتل، لكن قوى الاقتصاد آثرت إرجاء ذلك لحين نفاد منتجاتها من كل فئة على حدة، ومن حسن حظ "غراهام بيل" مخترع الهاتف أن لوم يوسف الشريف لم يطله!
انتحال الصورة
أما بالنسبة للصورة، فإن مخرج العمل وطاقمه بذلوا مجهوداً كبيراً في مشاهدة كم ضخم من أعمال الخيال العلمي، لكي يصنعوا صورة يتفرّق دم انتحالها بين القبائل. فتتر البداية وصورة المعامل في الواحة من "WestWorld"، وعصابة "مراد المحروق" ودراجاتهم البخارية من "Mad Max"، وأزياء أهل "الواحة" وشرطة التكتل ما هي إلا مزيج من ملابس "Hunger Games" و"Matrix" و"Star Wars"، أما "عزيز" الذي يلعب دوره عمرو عبد الجليل فهو ليس إلا "Chrisoph Waltz" في "Alita"، كما أن بعض اللقطات تذكر بأجواء سلسلتي "3%" و"Alterd Carbon" اللتين عرضتهما شبكة "نتفليكس" مؤخراً، وحتى بوستر المسلسل الرسمي، يشكل استنساخاً من كوفر ألبوم "Bionic" الشهير لنجمة البوب الأميركية كريستينا أغيليرا.
آلي على المسرح
في مسرح الجامعة والهواة في مصر، يتسيد تقريباً نوع واحد من النصوص، سوداوي، يدور حول ألم الوحدة وصعوبة الحياة، ودائماً ما يرتكز حول بطل واحد، يشبه أداؤه إلى حد كبير ما تقدمه الممثلة سهر الصايغ في مسلسل "النهاية"، كمعتل أو مأزوم نفسي يحدث الفراغ دائماً، لا الكاميرا أو الشخص الذي يواجهه في الكادر، يضحك ويبكي في انفعالات مفاجأة، قبل أن يصفق له الجمهور تحية لما بذله من مجهود عضلي فارق في الانتقالات المفاجئة بين الضحك والبكاء، ويبدو أن ذلك الأمر هو ما كان ينقص شخصية "صباح" التي ظلت تبحث عنه في كل مشهد تطل من خلاله، أكثر من بحثها عن الحب الذي دفعها لتخليق آلي يعوضها عنه.
أما يوسف الشريف، فقد قدم أداءً مبهراً، كإنسان آلي قادر على قذف زملائه والجمهور الذي يشاهدهم على الشاشة في آن واحد بالكلمات، بوجه لا يتغير انفعاله في أي من المواقف، وذلك خلال كل حالاته البشرية والآلية. لكن السؤال الأكثر سذاجة وصعوبة في الوقت نفسه، الذي يواجه صنّاع العمل، هو كيف ظهر في واديهم الطيب كل هذا الخراب بعد فناء قوى الشر العظمى، أم أنهم يرسخون لقيمة وجودية أكبر، أن "الشر في البشر" كامن إلى يوم الدين؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها