الأربعاء 2020/05/13

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

خالد العبود يضرب مجدداً.. فيوسّع صدر "البعث" للنقد!

الأربعاء 2020/05/13
خالد العبود يضرب مجدداً.. فيوسّع صدر "البعث" للنقد!
increase حجم الخط decrease
لا يمكن سوى الضحك من النتيجة التي توصل إليها وزير الإعلام السابق وعضو القيادة المركزية لحزب "البعث" الحاكم، مهدي دخل الله، بأن "حريات ‏التعبير في بلدنا وصلت إلى مستوى معقول"، في معرض تحليله للمقال الذي كتبه عضو مجلس الشعب خالد العبود، ووجه فيه انتقادات حادة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل أيام، مطلقاً فيه سلسله من الفرضيات تحت عنوان عريض هو "ماذا لو غضب الأسد من بوتين".


ورغم أن دخل الله (73 عاماً)، الشهير بمواقفه التشبيحية والعنصرية، التي عبر عنها مراراً في مقالات نشرها في جريدة "البعث" التابعة للحزب الحاكم في البلاد منذ ستينيات القرن الماضي، قال أنه يختلف في رأيه وتحليله مع رأي العبود. ورغم سخريته منه بالقول أنه انتقل من الدوائر والمربعات إلى الحفر والمطبات، فإن المقال الذي نشرته صفحة "مدرسة الإعداد الحزبي المركزية - القيادة المركزية - حزب البعث العربي الاشتراكي" في "فايسبوك"، كما هو متوقع، رسم حدوداً لحرية التعبير المسموح بها في سوريا، وهي "عدم تخطي سقف الوطن".

هذه الحرية الممسوخة التي يتحدث عنها النظام بشكل دائم، يطلق عليها تسمية "الحرية المسؤولة"، والتي يتم تفسيرها دائماً وفق أهواء شخصية، لعدم وجود قيود دقيقة تحكم هذا المصطلح الأجوف. ويمكن القول براحة تامة أن العبود لم يتخطّ الثوابت الوطنية، بل أكد على الهوية السورية وكرامة الدولة السورية وغيرها من المصطلحات الفارغة من المعنى التي كررها دخل الله، بلغة أقل فجاجة عندما فصل طبيعة العلاقات بين دمشق وحلفائها، والتي تضم مستويات متشابكة، كما أن الرجلين اتفقا على نقطة واحدة، من الصعب تصديقها، وهي استقلالية "الدولة السورية" وعدم تبعيتها للحلفاء، مثلما يجادل المعارضون والمستقلون والصحافيون المستقلون حول العالم.



وهنا كرر دخل الله حديثه عن الحريات المزدهرة في سوريا وفي روسيا، بشكل يتخالف مع التقارير الدولية ذات الصلة، حيث تقع روسيا في المرتبة 149 من أصل 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة للعام 2020 الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود"، بينما تقبع سوريا في المرتبة 174 على المؤشر نفسه. ولا تتميز الدولتان بحملات القمع والاعتقالات وتكميم الأفواه فقط، بل تتشاركان فكرة الحرية المسؤولة مع سيطرة الدولتين على وسائل الإعلام فيهما.

ورغم أن حرية التعبير تتفاوت من دولة إلى أخرى بطبيعة الحال، كاختلافها من فترة زمنية إلى أخرى، إلا أن ادعاء دخل الله بوجود حريات في البلاد مردود عليه لأن حرية التعبير في البلاد متدهورة منذ نحو 5 عقود على أقل تقدير، خصوصاً أنه استند في رأيه الفذ إلى أن "التلفزيون السوري يستضيف رموزاً للمعارضة الوطنية الذين ينتقدون مواقف الدولة بصراحة وبتعابير واضحة ومباشرة. ناهيك عن أن سياسات الحكومة تنتقد في وسائل الإعلام باستمرار"، وإشارته إلى أن الإعلام السوري مشابه للإعلام الروسي وقناة "روسيا اليوم" التي تستضيف محللين ومنشقين ومعارضي سوريين، رغم الحلف بين سوريا وروسيا، معتبراً أن "عهد الرأي الأوحد قد انتهى"، ولا يشمل ذلك بالطبع طرح أي سرديات وآراء تتجاوز "سقف الوطن" وما هو مسموح به.

هذه الرؤية الوردية الحالمة، كاذبة للأسف، وهي ليست مجرد شعارات ترمى في الهواء من أجل التشدق بامتلاك شيء غير موجود، بل هي خلاف جوهري حول معنى الإعلام السوري الحالي وما يجب أن يكون عليه في الظروف المثالي. ويعني ذلك أن الدولة السورية البعثية، ترى في الإعلام مجرد "ناقل للخطاب الوطني والسياسي السوري بكل فخر"، ويتم تدريس هذه الخلاصة في كلية الإعلام بجامعة دمشق ضمن عدة مقررات جامعية، ويتم التركيز عليها من أجل لعب دور "توجيه الرأي العام" بوصفه قطيعاً جاهلاً يجب توجيهه نحو بر الأمان، بشكل يعاكس طبيعة الإعلام في المجتمعات الديموقراطية والدول التي تهتم بحرية التعبير.

ولأن ذلك يشكل معطى عاماً إلى حد ما، بسبب تراكم الخبرة بين السوريين والإعلام الرسمي خلال عقود، لم يكن من العبث أن واحداً من شعارات الثورة السورية الأولى كان: "كاذب كاذب كاذب، الإعلام السوري كاذب"، وبالطبع لا يعتبر ذلك حقداً شخصياً بل هو تعبير عن خلاف أعمق حول طبيعة الدولة السورية المرجوة، والتي يكون فيها الإعلام الرسمي ناطقاً باسم كل السوريين وليس باسم السلطة فقط، مع الإشارة لتورط الإعلام الرسمي، ليس فقط في التزوير والتوجيه والكذب والتضليل، بل في ما يمكن توصيفه بانتهاكات لحقوق الإنسان، ليس أقلها بث الاعترافات القسرية لسوريين معتقلين.

والحال أنه تم تعميم نموذج الحرية المسؤولة هذ منذ بداية الثورة السورية العام 2011 كجزء من سياسة رسمية جديدة حينها يجوز بموجبها للناس العاديين والصحافيين انتقاد أعضاء الحكومة وقراراتها، مع بقاء رأس النظام ورموزه في منزلة مقدسة لا تطالها الانتقادات بذريعة أن ذلك "يمس هيبة الدولة" و"يخدش كرامتها"، بعدما كان ذلك "الحق" حكراً على أسماء يحددها النظام لخفض التوتر والاحتقان في الشارع، كمسرح محمد الماغوط ودريد لحام الذي يتم الاستناد إليه حتى اليوم في الإعلام الرسمي كنموذج للنقد البناء على سبيل المثال.

وتم كسر هذه السياسة جزئياً العام 2017 تحديداً مع اعتقال عشرات الناشطين الموالين للنظام، ووصلت ذلك إلى ذروة قمعية جديدة أواخر العام 2018، مع اعتقال الناشط الموالي وسام الطير صاحب صفحة "دمشق الآن" بعد نشره استفتاء مثيراً للجدل حول أزمة الغاز والكهرباء حينها. وكان واضحاً مع توالي الاعتقالات وحملات الترهيب ضمن البيئة الموالية وإعطاء شعبة جرائم المعلوماتية الناشطة ضمن الأمن الجنائي السوري في وزارة الداخلية، صلاحيات واسعة، أن النظام يرغب في إعادة سيطرته على الإعلام وتدفق المعلومات في البلاد، بعد سنوات التشظي التي فرضتها الحرب السورية وخلقت حاجة مؤقتة لوجود أصوات غير رسمية تضخ المعلومات والآراء التي يريد النظام إيصالها للبيئة الموالية بالدرجة الأولى في ملفات خدمية وعسكرية بالدرجة الأولى، علماً أن قيادة حزب قيادة حزب "البعث" بنفسها، أشرفت على تدريب وتأهيل مدراء الصفحات "الوطنية" في مواقع التواصل الاجتماعي منذ العام 2017.

وبالأسلوب نفسه تماماً، باتت هناك على ما يبدو حاجة ملحة جديدة، لتصدير شخصيات بلا وزن سياسي، مثل العبود، تقوم بالتعليق ومناقشة الترندات السياسية المحرمة التي لا يناقشها الإعلام الرسمي وتحدث قلقاً لدى البيئة الموالية، مثل كل الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية والعربية والسورية المعارضة، حول الخلافات بين الأسد ورجل الأعمال رامي مخلوف أو تلك التي تحدث عن خلافات بين الكرملين ونظام الأسد، والتي يعبر عنها بشكل واضح تقرير مفصل لوكالة "بلومبيرغ" قالت فيه أن صبر بوتين ينفذ من الأسد، بسبب تعنته في إجراء إصلاحات ضمن نظامه المتهالك، وما تبعه من دعوات في وسائل الإعلام الأميركية لإدارة الرئيس دونالد ترامب، لعقد صفقة مع الكرملين تنهي الأزمة السورية مرة واحدة وللأبد عبر التخلص من الأسد إن أمكن.

وهكذا لا يكون مقال العبود ورد حزب "البعث" عليه مجرد رسائل سياسية يبعثها النظام إلى روسيا، من دون تبنيها مباشرة، فقط، بل يشكلان أيضاً رسائل للبيئة الحاضنة للنظام والقلقة من أي تغيير يهدد مصالحها المختلفة، سواء كانت منافع اقتصادية أو امتيازات طائفية أو شعوراً بالاطمئنان في مواجهة مخاطر وجودية.

ومن المثير للاهتمام اعتماد النموذج الإعلامي الروسي للمقارنة من قبل دخل الله، في معرض تبريره لوجود حالة العبود على الساحة السورية اليوم، لأن الخطاب الرسمي للنظام اعتمد سابقاً على النموذج الإيراني عند تقديم "انتقادات" تحت سقف الحرية المسؤولة، حيث يتبارى المعسكران الإصلاحي والمتشدد في طهران من أجل الحفاظ على هدف واحد هو استمرارية النظام، وبث ذلك دعائياً عبر الرموز الثقافية والإعلامية المحلية، وتحديداً في مرحلة الانتخابات هناك، وهو ما كان دائماً مدخلاً غريباً للمقارنة لأنو النظام الأسدي كان دائماً نظامياً أحادي الاتجاه يبنى حول شخصية الرئيس فقط.

وعليه فإن إعادة ضبط البث الاعلامي بما لا يخرج عن الخطوط الحُمر التي رسمها النظام، أو لا يهدد صورة "الدولة المستقلة" التي تعمل روسيا على إعادة تأهيلها، بعد سنوات التشظي والفوضى، تشكل ضرورة وجودية للنظام في هذا التوقيت، يكسر بها الصوت المركزي الوحيد في دمشق، بعكس ما كان عليه الحال في حقبة حافظ الأسد الحديدية مثلاً، مع انتفاء الحاجة لصناعة رموز ورجالات اشتهروا في فترة الحرب نفسها، كقادة مليشيات، بالتوازي مع إعلاء صورة الجيش السوري كمؤسسة تضاف رمزيتها المقدسة إلى إلى رمزية عائلة الأسد التي تبنى حولها خدعة الاستقرار في سوريا، من جهة، وكذبة استقلاليتها عن حلفائها من جهة ثانية.

اللافت هنا أن دخل الله ليس مجرد عضو عادي في حزب "البعث" الحاكم، بل يشغل منصب عضو القيادة القطرية للحزب و"رئيس مكتب الإعداد والثقافة والإعلام" فيه، وتعكس كلماته نزعة أحادية كلاسيكية ضد المعارضين للنظام، تحديداً، مع إشاراته لمعاني المواطنة في البلاد، وهي كما هو معروف في المنطق الموالي تقوم على الخضوع والانتماء لا لسوريا المجردة بل لـ"سوريا الأسد" حصراً. ولعل مقاله يعبر بوضوح عن شيء واحد فقط هو حقيقة الشرخ الاجتماعي الحاد الذي أحدثته الثورة السورية في المجتمع بعد فشلها في الوصول إلى أهداف الحرية والديموقراطية والمساواة، وتحولها إلى حرب أهلية عززت الانقسام الطائفي والمناطقي والطبقي، والتي أدت بشكل مواز إلى تغييرات ضرورية في بنية النظام من أجل التكيف مع المعطيات الجديدة.

ومع اعتماد الحرية المسؤولة، فإن النظام البعثي - الأسدي مجدداً يكرس ضمناً، رفضه الانفتاح والحوار مع المعارضين السياسيين والنخب الفكرية والثقافية المعارضة له مع شيطنته للصحافيين والناشطين المعارضين أيضاً، لأن تلك الشخصيات على اختلاف توجهاتها ضمن المعارضة، تمثل خطراً وجودياً على النظام ليس بسبب قدرتها على قيادة الرأي العام فقط، بل لأنها تتكلم لغة مختلفة عن لغته العنيفة وتطالب بمبادئ الكرامة الإنسانية الأساسية التي تجرد النظام من شرعيته بسهولة، والتي لا يمكن له الوقوف في وجهها أو مجادلتها إلا بلغة التخوين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها