الأربعاء 2020/04/15

آخر تحديث: 18:52 (بيروت)

عباس النوري.. وقد اكتشف المؤامرة

الأربعاء 2020/04/15
عباس النوري.. وقد اكتشف المؤامرة
increase حجم الخط decrease
لا غرابة في كمية المغالطات التي قدمها الممثل السوري عباس النوري، ضمن مقطع فيديو ظهر فيه هذا الأسبوع عبر صفحته الشخصية في "فايسبوك" مروجاً لنظرية المؤامرة التي تقول أن فيروس كورونا المستجد هو جزء من حرب بيولوجية تقوم بها الولايات المتحدة ضد الصين حتى لو عنا ذلك قتل آلاف حاملي جوازات السفر الأميركية، حيث اعترف الممثل الشهير بأدواره في مسلسلات البيئة الشامية الرجعية، بأن اكتشافه المذهل هذا أتى بعد بحث ضمن محرك "غوغل"، بعيداً عن معلومات وسائل الإعلام.


والنوري الذي كان يقرأ الملاحظات التي دونها جانباً، كنتيجة ربما لخلاصة بحثه الفذ، لم يأت بجديد، رغم اعتقاده بذلك وابتهاجه بذلك الاعتقاد، حيث لخص نظريات المؤامرة الكلاسيكية التي تروجها منذ شهور وسائل إعلام مرتبطة بالكرملين ووسائل إعلام صينية، وحتى وسائل الإعلام الرسمية في سوريا، التي لطالما هاجمها النوري بوصفها إعلاماً متخشباً، وأجمعت على أن كورونا هو فيروس مصنّع مخبرياً رغم النفي المتكرر من علماء وأطباء ومراكز أبحاث متخصصة أثبتت بالدليل القاطع استحالة ذلك بعد تحليل بيانات تسلسل الجينوم العام لفيروس كورونا المستجد والفيروسات ذات الصلة.​ وهو ما يمكن القراءة عنه بشكل موسع ضمن بحث نشرته مجلة "نيتشر" العلمية.



والحال أن ظهور النوري بهذه الصورة له واحد من تفسيرين متقاطعين: الأول هو أن الفيديو يمثل طريقة النوري الخاصة في الاستجابة لتوجيهات الأجهزة الأمنية والمخابراتية للفنانين الموالين، الذين كثفوا ظهورهم الإعلامي مؤخراً للحديث عن فيروس كورونا من منطلق نظرية المؤامرة ودعوا لرفع العقوبات عن النظام السوري، حيث يبقى النوري واحداً من أبرز الفنانين الموالين لنظام الأسد مع إصراره على نفي صفة المعارضة عن نفسه "بكافة أشكالها" رغم مشاركته سابقاً في مؤتمرات لـ"المعارضة الداخلية". أما التفسير الثاني فيتمثل بمتلازمة الفنان المثقف، وهي صفة أفرزتها التربية البعثية التي صاغت مفاهيم الحياة في سوريا طوال عقود، ينتج عنها هنا ربما رغبة جامحة في التمايز عن بقية الفنانين الذين نشروا يومياتهم "التافهة" عن الحياة في ظل كورونا، لا أكثر.

ووفق التصورين، يمكن تخيل النوري وهو يشعر إما بالملل في الحجر الصحي أو بالحاجة لإطاعة التوجيهات الرسمية خوفاً من عقوبات جديدة بحقه بعد منعه المؤقت في ربيع العام الماضي من الظهور في "الإعلام الوطني"، ليتحمس فجأة ويفتح "غوغل" رغم كونه منتجاً تكنولوجياً أميركياً يجب شتمه لا الاعتماد عليه، ويقرأ النتائج التي تظهر في صفحاته المتأخرة، بعيداً عن المعلومات الدقيقة التي تقدمها وسائل الإعلام المستقلة ومنظمة الصحة العالمية. وربما أحاله البحث إلى أحد مقاطع الفيديو الكثيرة المنتشرة في "يوتيوب" التي يدعي أصحابها المتنورون نشر "الحقيقة" حول المرض، ويعتمده كأساس لما سيقرر لاحقاً بثه في "فايسبوك" على أنه الحقيقة التي يجب التوعية بشأنها.

ويجب القول أنه لا فائدة في تفنيد ما تحدث عنه النوري ضمن الفيديو، لأن المعلومات الهزلية التي تحدث عنها تكذب نفسها بنفسها، وخصوصاً اللبس الذي وقع فيه عند حديثه عن ديون الولايات المتحدة لصالح الصين، في إشارة ربما لاستثمارات الصين في سندات الخزينة الأميركية، أو مبالغاته في الحديث عن الذكاء الصناعي كعدو للحضارات "التي تربينا عليها" والتي بلغت حد الادعاء أن البشرية تعيش في زمن الرقاقات الإلكترونية التي تزرع في أدمغة الأطفال حول العالم من أجل تحفيز ذكائهم، وهي مقولة تبدو مفتاحاً لمسلسل خيال علمي يعرض في "نتفليكس" وليس واقعاً للأسف، وإلا كان بالإمكان تزويد النوري بواحدة من هذه الرقاقات على أمل تحفيزه على التمييز بين الواقع والخيال وبين الأخبار والأخبار الكاذبة وبين المعلومات والبروباغندا.

على أن الطريقة التي وصف بها النوري وسائل الإعلام المستقلة حول العالم، على أنها شريكة في المؤامرة الكونية ما يستوجب البحث عن مصادر معلومات بديلة، يشكل استنساخاً حرفياً لسردية النظام السوري حول الإعلام المستقل، والمستوحاة بدورها من الخطاب الدعائي والدبلوماسي الروسي، الذي يروج لأفكار ضد نظام الديموقراطية "Anti-Establishment". ويتم عبره تخيل محور عالمي مقاوم للديموقراطية الغربية بوصفها "سلعة معولمة"، وينادي بحرية مصادر المعلومات البديلة "Alternative News" في العالم.

ويعني ذلك مصادر "الأخبار الكاذبة" الممولة من الكرملين مثل "المصدر نيوز" المهتم بالشأن السوري مثلاً، ومئات المواقع التي تنشر نظريات المؤامرة والأخبار الكاذبة حول فيروس كورونا، وهو ما أكدته وثيقة للاتحاد الأوروبي في آذار/مارس الماضي، علماً أن روسيا استخدمت الأخبار الكاذبة لتقويض الديموقراطية وساهمت بشكل مباشر في انتخاب رؤساء شعبويين متطرفين مثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وحتى في تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي. كما أشارت دراسة لمعهد "أوكسفورد" للإنترنت قبل أيام، إلى الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام الروسية والصينية، تحديداً، في نشر نظريات المؤامرة عبر الإنترنت ما يعقد بشكل محتمل الجهود الدولية للتعامل مع الفيروس.

ويبقى حديث النوري عن الإعلام بوصفه أداة في يد الحكومات فقط، لافتاً لكونه يلقي الضوء على مثقفي السلطة في "الدولة السورية" الذين يتجاوزون حدود المنطق البسيط من أجل الترويج المنمق لنفس الأفكار الظلامية التي يروج لها الإعلام الرسمي بفجاجة تستوجب النقد من قبلهم، بسبب أسلوبها وليس لاختلاف حول مضمونها. وتشكل تلك الأفكار في مجملها رؤية النظام السوري للمجتمع والسلطة في البلاد، والتي تنبع من مدارس فكرية شمولية وقمعية بالدرجة الأولى، يكون فيها الإعلام تحديداً إما بوقاً للسلطة أو مجرد أداة لتحقيق أجندات ومؤامرات خارجية، بشكل يعاكس طبيعة الإعلام المستقل في المجتمعات الديموقراطية والدول التي تهتم بحرية التعبير.

ويمتزج ذلك كله بفوقية قبيحة عند النظرة إلى الجمهور الذي يوصف بأنه قطيع وجاهل وأحمق ومتسرع ويحتاج للوعي الذي يتم تحصيله حصراً من "الإعلام الوطني" مثلما يتجلى في القرارات الرسمية التي جرمت تبادل المعلومات عن فيروس كورونا في البلاد إن لم تكن مستندة إلى بيانات وزراتي الإعلام والصحة في حكومة النظام. أما السردية الثقافية التي تخلق سياقاً لتلك المعلومات، فيجب أن تأتي متوافقة مع الخطاب السياسي الذي يعتبر في هذه الحالة الصين دولة حليفة يجب الدفاع عنها ضد "الغرب السفيه الفاجر"، ويعمل مثقفو السلطة على تعميم هذه الخطابات السامة، كل بأسلوبه، ضمن دائرة مغلقة من التأثير.

ويشكل فيديو النوري مثالاً نموذجياً على كل ذلك، حيث أشار النوري بالطبع إلى جهل الجمهور بحديثه عن صعوبة الإلمام بكافة تفاصيل فيروس كورونا "لأنه أكبر من قدرتنا على الإحاطة به"، ولا تختلف تلك العبارة كثيراً عن فلسفة الإعلام الرسمي القائمة على استغباء الجمهور ومعاملته كمتلق يجب عليه تقبل ما يملى عليه كـ "واجب وطني".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها