فالقاضيان، عُرفاً، عينتهما السلطة السياسية بتزكية من زعماء طائفتيهما، لا يمتلكان هامشاً واسعاً من النفوذ المستقل عندما تطاول الاجراءات القضائية سياسيين أو مصارف، وهو واقع لا ينفيه كبار المسؤولين الذين يتحدثون دائماً عن ضرورة تعزيز استقلالية القضاء ومنع التدخلات فيه.
كذلك، ليس بوسعهما أن يتجاوزا الى أمد بعيد تلك الحدود المرسومة بين الاتفاقات والتوافقات بين السلطة والمال. وبالتالي فإن جَلدهما، أو الدفاع عنهما في مواقع التواصل، ينطوي على سذاجة شعبية تتمنى ما يتخطى الواقع، وتحلم بما يتجاوز القدرة، وتجتهد بما لا سلطة لها على اقتراحه.
قُرئ القرار على أنه رسالة للمصارف، عشية الاستحقاق الأول لـ"اليويوروندز" (9 آذار الجاري)، وهو ما نفته مداولات الأسبوع الماضي، التي أفضت إلى أن إعادة هيكلة الدَّين المستحق بعد يومين، مستحيلة، بالنظر إلى أن الجهة الأجنبية حاملة 27% من قيمة الدَّين، ترفض ذلك، فتم التوافق مع المصارف على صيغة جديدة بعد أن تدفع الحكومة السندات المستحقة.
والواقعة الأخيرة، تنفي الرسالة المروّج لها، كما ينفيها القرار اللاحق الصادر عن مدعي عام التمييز، والذي يعد أرفع سلطة ادعائية في القضاء اللبناني، والقائل بتجميد القرار المتخذ ومفاعليه عملاً بأحكام المادتين 13 و21 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، على ضوء أن قرار القاضي ابراهيم هو "تدبير إداري مؤقت يمكن الرجوع عنه أو تجميده متى أصبحت المصلحة الوطنية مهددة".
علماً أنه، بموجب تعميم أصدره رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، يُمنع على أي نيابة عامة أن تخاطب جهة حكومية أو إدارية منفردة من غير الرجوع الى النيابة العام الاستئنافية التي تمتلك حق النقض والقرار بالاستدعاءات (لها تجارب في استدعاءات كانت القاضية غادة عون أصدرتها).
وعليه، يبقى القرار الأول في إطار الرسالة السياسية التي استدعت تدخلاً وتحذيراً لاحتوائها، على قاعدة أن المصارف، في حال أرادت أي جهة تحميلها كامل المسؤولية، ستدافع عن نفسها بمحاسبة الشركاء في السياسة، بالنظر الى العلاقة التشابكية بينهما.
فالمال، بلا مواربة، هو الحاكم الفعليّ في البلاد. ويصنع، مع رجاله، في أغلب الأحيان، السياسة الاقتصادية.. إلا في ما ندر. وحين وقع الاستثناء، تخطياً لنصيحة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في ملف "سلسلة الرتب والرواتب" مثلاً، انحدرت البلاد إلى أزمة اقتصادية يجري الآن احتواؤها بمقترحات عُرضت خلال الاجتماعات مع بعثة صندوق النقد الدولي، ومن بينها خفض سعر العملة رسمياً 25%، بما يمكّن الحكومة من خفض العجز الذي تسببت به السلسلة، وتقليص حجم الدَّين العام بالليرة اللبنانية وقيمة خدمته كجزء من الإجراءات المحتملة للنهوض بالاقتصاد.
مجمل الوقائع تلك، يفضي إلى قناعة بأن الهجوم على المدعي العام المالي، في وسائل الإعلام ومواقع التواصل، غير مبرر. كذلك الهجوم على مدعي عام التمييز، غير مبرر. فما صدر عنهما يمثل إجراءات لا تنفصل عن السياسة. ما يجري، هو شد حبال بين المصارف والسياسيين، رغم أن الجهة الثانية تمتلك سلطة القرار في الجهة الأولى، واستفادت منها إلى حد كبير. هذا التشابك، هو الجهة التي تحكم مسارات البلد وسياسته الاقتصادية. لذلك، فإن أي اجتهاد خارج هذا التوصيف، ينطوي على أحلام لا تُصرف.. إلا في مواقع التواصل الاجتماعي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها