الأحد 2020/03/01

آخر تحديث: 20:15 (بيروت)

سوريا .. ثالث المعارك التركية المقدسة

الأحد 2020/03/01
سوريا .. ثالث المعارك التركية المقدسة
increase حجم الخط decrease

كان لِمَقتل عدد من الجنود الأتراك في سوريا مؤخراً أثرٌ أبعَد من العَسكَرة والسياسة، فقد شكّل هذا الحدث نقطة فاصلة في النظرة لهذه المعارك، إذ لم يَعُد ممكناً اعتبارها عَملاً اعتيادياً تحت بند الأمن القومي، فتحولت تدريجياً إلى ما يشبه "معركة وجود" أو"هويّة" تلفّها رغبة بالاعتماء على "الذات التركيّة" دون تجاهل حجم التضامن القادم من خارج الحدود. 

يُمكن تلمّس ذلك من الحالة الوجدانية المتقدمة التي أصبحت تطبع الموقف التركي الرسمي والشعبي، وذلك إثر تصاعد وتيرة الأعمال العسكرية في الأيام الماضية.

وكعادة هذا البلد في المواقف ذات البُعد "الوَطني" والمرتبطة بمفهوم "الشهادة" تحديداً، ينحسر الجدل الداخلي بين أقطاب الحكومة والمعارضة نسبيّاً ويُؤجَّل، ويتحوّل الأسى والحزن إلى مصدر قوة مُستمَدّة من محطات التاريخ الحاسمة بالنسبة لتركيا، وانتصارها على "أعدائها". 
ووسطَ أشكال التعبير المختلفة التي غصّت بها مواقع التواصل الاجتماعي، كان لافتاً تداول صورة لها رمزيتها العميقة كونها تضع "قتال الأتراك في سوريا" في مَصاف الأحداث المصيرية بالنسبة لهم. 



وفي هذه الصورة نقرأ عبارة " إذا تغيّر التاريخ فالفِطرة لا تتغيّر" في إشارة إلى أنّ عقيدة القتال لا يبدّلها الزمن. ورافقَ هذه الجُملة مَشاهد تجسّد لحظات مؤسِّسَة في حياة "الأمّة التركيّة"؛ أوّلها فتح القسطنطينية عام 1453 (والتي صارت "اسطنبول" بعد سيطرة السلطان العثماني محمد الفاتح عليها). وثانيها مشهد مماثل (صلاة جماعة لجنود) لكن من معركة شاناكالي أو "جناق قلعة" المُخلّدة لدى الأتراك والتي جرت عام 1915 إثر محاولة أسطول دول التحالف خلال الحرب العالمية الأولى -في مقدمتها إنكلترا وفرنسا- احتلال مدينة اسطنبول، وفشلها في ذلك. ويتناول الجزء الثالث من الصورة حالة مشابهة من سوريا 2019 (في إشارة إلى عملية نبع السلام التركية).

وفي إطار الرد على الأصوات المُعارضة لتواجد الجيش التركي خارج البلاد، استعاد البعض مَوقعة "جناق قلعة" وهذه المرّة من منظور آخر يُمجّد التضحيات السورية دفاعاً عن الدولة العثمانية حينها، فقد أوردَ أحد المغردين على موقع تويتر صورة فيها قائمة باسم "شهداء" من مدينة إدلب قُتلوا خلال تلك المعركة، وأرفق ذلك بتعليق يقول :"هنا شاناكالي..هؤلاء لم يقولوا ماذا نفعل في شاناكالي" تعليقاً على المُعتَرِضين من الأتراك ممن يتساءلون: لماذا نحن في سوريا. 



ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذه الثيمة (امتزاج الدم السوري بالتركي خلال الفترة العثمانية وتحديداً في الحرب العالمية الأولى) حضَرَتْ بشكل متكرر عقب تدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا بأعداد كبيرة بعد عام 2014، وكان لها وقْعُها لدى الشعب التركي بما دَفَعَه لاتخاذ موقف أكثر إيجابية من موضوع "الاستضافة"، ونزع فتيل الحوادث العنصرية التي تقع بين حين وآخر، لكنّ تأثير هذه الفكرة تراجع مع تغيّر أوضاع اللاجئين عالمياً، وزيادة التجاذبات السياسية الشعبوية.

لكنّ الحالة التضامنية لم تقف عند هذا الحدّ، بل أخذت بُعداً مختلفاً مع نشر مقاطع فيديو على موقع تويتر لإقامة سوريين صلاة الغائب على الجنود الأتراك الذين قضوا قبل أيام. 

وجاءت هذه التغريدات ضمن هاشتاغ #Turkeyisnotalone لتعكس حالة أوسع مع تركيا شارك فيه مغرّدون أجانب من جنسيات مختلفة.   
وإنْ كان الهاشتاغ وحملات التضامن مع تركيا مفهومة ضمن سياق معين، فإنها بالمقابل لا تُغفِل شعوراً تركيّاً بالغضب والتخلَي منَ الحلفاء الدوليين خصوصاً من حلف الناتو الذي تعرّض لانتقادات كبيرة، إذْ توقّف الكاتب التركي تشاغري إرهان عند "عجز الحلف" وتقاعسه عن دعم بلاده، وهو "ما لا يمكن تبريره بمَواد المعاهدة أو بمفهومها الاستراتيجي" حسب قوله، مشيراً إلى مجموعة أمثلة تؤكد توسع المنطقة الجغرافية لعمليات الحلف تاريخياً وفقاً لعدد من المتغيرات.
ورأى إرهان أن السبب الفعلي لعدم تدخل الناتو لصالح تركيا يَعود إلى إحجام دول بعينها (وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) عن مناقشة موضوع التدخل، لتكون النتيجة تجرّؤ النظام السوري على مهاجمة الجنود الأتراك.

هذا الأسلوب التحليلي السياسي العقلاني لم يكن طاغياً، بل غلَبَ على الكتابات الصحافية التي تَلَتْ استهداف الجيش التركي في سوريا لغة مشحونة بالعواطف لم تِخلُ أحياناً من حديث الخيارات وحسابات "السلم والحرب" لكنها بدتْ وأنها مؤجلة بمعظمها لتسود بدلاً عنها لغة التكاتف و"احترام دماء الشهداء". وهو ما أبرزه الكاتب إبراهيم كراجول الذي لم يَفتهُ أن يُحمّل مسؤولية ما جرى لقوات بلاده في سوريا لأكثر من طرف سواء من حلفاء تركيا أو أعدائها. 
واعتبر كراجول أن ما شهدته تركيا -بمقتل جنودها- هو ملخص الألفية الماضية. واستعاد الكاتب سلسلة من الصعوبات التي عصفت بتركيا، ولكنها بقيت "أمة قوية استطاعت النجاة من أحلك الظروف". ليخلص بالنتيجة إلى الأهم وهو أنّ هذه الحرب التي تخوضها تركيا ستستمرّ لا محالة "سواء أردناها أم لا" حسب قوله.

وعلى العكس، كان للكاتب أورهان أوروغلو نظرة مختلفة، لذا فلم يخفِ تحفّظاته العديدة على خيارات حكومة "العدالة والتنمية"، من دون أن ينسى فتح النار على "الأصدقاء"، معتبراً أنه "ليس للتركي صديق إلا التركي.. لا ترامب ولا بوتين ولا ميركل أو ماكرون". 

ومع تشديد الكاتب أن "جميع الردود العسكرية التي حصلت وستحصل لن تعيد شهداء بلاده إلى الحياة"، فإنه عادَ للتأكيد أنّ الوقت الحالي هو لـ "الوحدة" بالنسبة للأمة التركية. وكما البقية، طغى على كلمات أوروغلو الإعلاء من فكرة "الشهادة في سبيل الوطن" من منطلق قومي، وأورد حادثةً تعود للعام 1924 حين احتجّ مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك على لافتة مكتوبة تقول إن "التركي يساوي عشرة من الأعداء"، ليؤكّد أن قيمته أكبر، فهوَ "يساوي العالم".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها