الخميس 2020/02/27

آخر تحديث: 17:28 (بيروت)

الإنترنت في سوريا.. عودة إلى حقبة الثمانينات "الذهبية"!

الخميس 2020/02/27
الإنترنت في سوريا.. عودة إلى حقبة الثمانينات "الذهبية"!
بشار الأسد والإنترنت في معرض دمشق الدولي العام 1999 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لم يتبقّ في سوريا شيء، لا كهرباء ولا غاز ولا بنزين ولا مواد غذائية ولا خدمات صحية وتعليمية ولا أمان، واليوم لم يعد هنالك إنترنت أيضاً. فالقرار الذي أصدرته وزارة الاتصالات في حكومة النظام قبل أيام، والقاضي بإقرار العمل بنظام باقات الإنترنت حسب الاستهلاك، يقضي تقنياً على آخر ما تبقى للسوريين من متنفس لحرية التعبير و"فشة الخلق" وحتى التسلية.

ولم يخفِ النظام يوماً رغبته في تطبيق أكبر تحكم ممكن بالمعلومات في البلاد، للعودة بالزمن إلى حقبة الثمانينات "الذهبية"، عندما كان الحجب والتعتيم من الأمور البسيطة والمستطاعة في ظل تقنيات ذلك الزمن. ومع صعوبة عزل البلاد بالكامل عن الشبكة العالمية، أو فرض حجب تقليدي على المحتوى الإلكتروني غير المرغوب، يبدو حل الباقات مثالياً بالنسبة للنظام، خصوصاً أنه يستفيد بدوره من الإنترنت ومواقع التواصل، لبث دعايته وممارسة نوع من الرقابة المباشرة والسهلة على الشعب السوري.

وتأتي المخاوف من النظام الجديد، من قدرته على فرض رقابة غير مباشرة على الإنترنت، ويعني ذلك أن المستخدم سيتمكن من الحصول على إنترنت يكفيه لتصفح بعض المواقع الأساسية والسوشيال ميديا، لكنه سيكون في خوف دائم من تجاوز حد الاستهلاك بسبب العامل الاقتصادي والفاتورة التي ستنتظره. وبالتالي سيفرض رقابة ذاتية على نفسه عن مشاهدة مقاطع الفيديو مثلاً، أو تصفح مواقع "غير مرغوبة من قبل النظام"، والتي قد تُفرض عليها بعض القيود التقنية التي تجعل تصفحها ثقيلاً وبطيئاً ما يزيد في الاستهلاك بالضرورة، من دون أن تضطر سلطات النظام لاستعمال الحجب بمعناه التقليدي المعروف قبل العام 2011.

وفيما سمح النظام للسوريين بمواقع التواصل الاجتماعية المحجوبة قبل الثورة، حجب عشرات المواقع الإلكترونية العربية المستقلة في محاولته التحكم بضخ المعلومات. ويبدو أن النظام يحاول تفادي "الأخطاء" التي ارتكبها بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة والتي أدت وفق المنطق السلطوي إلى الثورة لاحقاً، أي إعطاء بعض الحريات المدنية والمعلوماتية مقارنة بحقبة حكم والده الحديدية السابقة. ويمكن القول أن النظام في كافة أفعاله مؤخراً يسعى إلى التخلي عن ملامح "الضعف" من أجل فرض "هيبة الدولة" على المواطنين، سواء بفرض الرقابة المشددة على الإعلام أو اعتقال الإعلاميين والمدنيين، حتى من الموالين الذين ينتقدونه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً للقوانين المشددة الخاصة بالإنترنت، ومنها قوانين الجريمة الإلكترونية والقرارات الخاصة بنظام الباقات.



يحيل ذلك إلى منطق الوصاية الفكرية التي يمارسها النظام على السوريين، حيث يتم تبرير القرار وتمجيده من قبل إعلاميي النظام وصفحات موالية للنظام مرتبطة بجهات رسمية، بالقول أنه "لا يوجد أي مبرر للتذمر من النظام الجديد"، وبأن النظام يحد من الاطلاع على الصور والفيديوهات "اللي بلا طعمة" والتي تستهلك الحزمة الأكبر من الإنترنت، مع الإشارة هنا إلى أن النظام فرض خلال العامين الماضيين قيوداً على المكالمات الصوتية ومكالمات الفيديو عبر تطبيقات المراسلة الفورية ومواقع التواصل الاجتماعي، ورغم عدم حجب التطبيقات الأساسية، إلا أنه بات من الصعب إجراء مكالمات عبر "واتس آب" أو حتى "ماسنجر" التابع لشركة "فايسبوك" من دون استخدام برامج "بروكسي" وخدمات الشبكات الافتراضية البديلة "VPN".

ولا بد من التساؤل عن معنى المحتوى "اللي بلا طعمة"، ولا بد أن المقصود به هنا، أي معلومات لا يريد النظام تداولها، وتحديداً المواضيع الحدثية المحرجة للنظام أمام بيئته الداخلية، والتي لم يعد وصفها بالأخبار الكاذبة كافياً لتفنيدها. بما في ذلك صور الذل اليومي للسوريين على طوابير الانتظار للحصول على متطلبات الحياة الأساسية كالغاز والمحروقات والمواد الغذائية البسيطة كالأرز والسكر والشاي، وصولاً للصور ومقاطع الفيديو التي توثق انتهاكات النظام المتعددة لحقوق الإنسان ضمن المستوى اليومي، وليس انتهاء بالمواد الإعلامية والأفلام والمسلسلات التي تعطي حيزاً للمقارنة بين ما يعيشه السوريين وبين بقية البشر على الكوكب.

والحال أن شخصيات إعلامية موالية للنظام، اعتمدت أسلوب المقارنة مع الصين لتبرير القرار، ورغم إعجابهم بالنموذج الصيني "المناهض للغرب السفيه الفاجر" عبر حجب شديد للمواقع الكبرى ومنها "غوغل"، فإن المقارنات بدت كوميدية، لانقسامها في الوقت نفسه إلى جانبين، الأول أقرب لتهديد السوريين المتذمرين من القرار، بإمكانية فرض النموذج الصيني، والثاني أقرب للتطبيل لـ"القيادة الحكيمة" الرحيمة بالمواطنين لكونها لم تتجه لتطبيق النموذج الصيني القاسي.



ويعاني الإنترنت في سوريا من ضعف ملحوظ منذ بداية تشغيل المخدمات، ويضطر المستخدمون للانتظار فترات طويلة لتحميل مقطع فيديو صغير مثلاً. ويعزو مسؤولو النظام سوء الخدمة في البلاد، أحياناً لقصص خيالية، كأسماك القرش في البحر المتوسط، التي تتسبب بالانقطاعات المستمرة في الخدمة. ويعود ضعف الانترنت فعلياً لأسباب تقنية متعلقة بسوء البنية التحتية الخاصة بالشبكة، وأخرى سياسية عندما يرى النظام حاجة في خنق المساحة الضئيلة للتعبير التي توفرها مواقع التواصل الاجتماعي.

ومن المثير للاهتمام أن عداء النظام السوري للإنترنت قديم، فرغم أن الإنترنت دخل البلاد في أواخر التسعينيات إلا أن الوصول إليه كان مقتصراً على الهيئات الحكومية، وحتى العام 1999 لم يكن يسمح للمواطنين السوريين الاشتراك بالإنترنت، وهو ما ذكرته منظمة "هيومان رايتس ووتش" حينها في تقرير خاص بالإنترنت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتقدر وزارة الاتصالات السورية عدد مستخدمي الإنترنت في سوريا بنحو من 8 ملايين مستخدم فقط من خلال بوابات "ADSL" ولا يشمل هذا الرقم مستخدمي الإنترنت عن طريق الخطوط الخليوية باهظة التكلفة.

وتبدأ سرعة خطوط الإنترنت في سوريا من رقم محرج، هو 512 ك بت/ثا، وصولاً إلى 24 ميغا بت/ثا. لكن أقصى سرعة فعلية متوفرة حالياً في سوريا تقف عند حاجز 18 ميغا بت/ثا، حسب مواقع متخصصة في مراقبة الإنترنت. لكن متوسط سرعة الإنترنت في المجمل يبلغ 768 ك بت/ثا وهو أقل بكثير من المتوسط العالمي الذي يبلغ 4.6 ميغا بت/ثا، كما لا تتوافر خدمات الإنترنت في كافة المناطق السورية، وهو أمر لا علاقة بالثورة والحرب في البلاد به، بل هي خاصية قديمة، وبحسب تصريحات عضو مجلس إدارة "الشركة السورية للاتصالات" زياد عربش، لوسائل إعلام رسمية العام 2019، يتقاسم كل 5 مشتركين بالإنترنت بوابة "ADSL" واحدة.

وتشير معطيات وزارة الاتصالات إلى أن تطبيق "واتس اب" وموقع "فايسبوك" هما الأكثر استخداماً لتبادل المعلومات في سوريا، مقارنة مع التطبيقات الأخرى كـ"يوتيوب" و"تويتر"، كما يكشف تحليل الحزمة الدولية لمستخدمي الإنترنت أن 70 في المائة من المستخدمين يعتمدون على تطبيقات التواصل الاجتماعي، علماً أن النظام حجب المواقع الإباحية في البلاد العام 2018 بحجة "حماية المجتمع".

ورغم الاستياء الواضح بين السوريين في مواقع التواصل، إلا أن هنالك نوعاً من الاستسلام للقرار، وعلى عكس بعض التعليقات في مواقع التواصل، من غير المرجح حدوث احتجاجات في الشوارع مثلاً ضد القرار، على غرار الاحتجاجات اللبنانية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، التي أشعلتها مقترحات لفرض ضريبة على مكالمات "واتس أب"، على اعتبار سوريا الأسد دولة مشرعة للعنف وإطلاق النار، ليس بفعل الحرب المستمرة فقط، بل كجزء من الحمض النووي للنظام السوري نفسه، ما يخلق بدوره حاجز خوف جديداً لدى السوريين، نشأ بعد العام 2011، بسبب مستوى العنف المهول الذي قدمه النظام وحلفاؤه لقمع الثورة السورية السلمية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها