الأحد 2020/02/02

آخر تحديث: 20:30 (بيروت)

غزة المعزولة: بُؤسٌ و"زنّانة"..وعنبٌ لبناني!

الأحد 2020/02/02
غزة المعزولة: بُؤسٌ و"زنّانة"..وعنبٌ لبناني!
increase حجم الخط decrease
إنها الساعة الحادية عشرة ليلاً، صوت "زنانة" (طائرة إستطلاع) إسرائيلية يطغى على سكون الليل في فندق "المتحف" الكلاسيكي، الكائن في مدينة غزة.

وكأنها لحظة التهيئة لوجبة جديدة من القصف الإسرائيلي الليلي الذي عادت وتيرته لتزداد في الأيام الأخيرة، توطئةً لانفجار محتمل في جبهة غزة من جديد.. هكذا تنبأ صحافي غزّي، مُخبراً إياي كزميلٍ قادم من الضفة الغربية ولم يَمضِ على زيارته الأولى إلى هُنا، سوى ثلاث عشرة ساعة، قائلاً: "يبدو أنك ستسمع صوت القصف هذه الليلة".

هذا المشهد- على وجعه- ليس ما يُشغل بالي فحسب. فهذا معتاد عليه ومتخيل لدى الفلسطيني، وقد شهدت شيئاً من هذه الأجواء الساخنة ولو أنها مجرد "بروفة" مقارنة بما عايشته غزة في حروبها السابقة.

لكن.. ما حرّك سعيي الدائم لتحقيق حلمي بزيارة هذا المكان هو أنني أردت اكتشافه بكل تجلياته وعن قرب.. بعيداً عن قيود نشرات الأخبار اليومية التي اعتدتُّ على إذاعتها في الراديو، وما ترسمه "التراجيديا" من صور نمطية في أذهاننا تُخفي الجانب الآخر من الحياة الغزّية رغماً عن الحصار الذي ضربه الاحتلال على القطاع منذ ثلاثة عشر عاماً.

سبب آخر دفعني للمجيء إلى غزة هو شعوري المستمر-كفلسطيني بعقدة الذنب و"العيب" لأنني لم أتمكن من زيارة القطاع منذ نعومة أظفاري، بالرغم من أن المسافة الزمنية بالسيارة بين رام الله حيث أقيم، وحاجز "بيت حانون-ايرز" الاحتلالي على حدود غزة لا تتجاوز التسعين دقيقة.. لا لشيء، فقط لأن الدخول إلى القطاع المحاصر ليس بالأمر السهل ويُقرره الاحتلال.

ولمّا حانت الفرصة، ووصلت حاجز "بيت حانون-ايرز" الاسرائيلي، وسط اجراءات احتلالية مشددة، باتت قدماي تسير بتسارع أكبر و بحماسة أشدّ على أمل معايشة الحياة الواقعية لسكان هذا السجن الكبير-ولو لثلاثة أيام ستكون محفورة في الذاكرة ما حييت- إنهم أهل غزة الذين يعيشون في مساحة جغرافية صغيرة تقدر ب365 كيلو متر مربع، وبواقع سكاني وديموغرافي مكتظ.

عبرتُ الحاجز الإسرائيلي، وقد قرأتُ قائمة مطولة تنص على منع إخراج أي شيء غير الملابس والموبايل من غزة عند العودة.. حتى معجون الأسنان والعطر على سبيل المثال، يمكن إدخالُهما، ولكن "ممنوع" أن يكونا ضمن الأشياء التي بحوزة الخارجين من القطاع.

لعل هذا السرد يجسد في مخيلتنا عن أي مكان أتحدث، وكيف أن الغزيّ ممنوع أن يغادر إلى الضفة الغربية او العالم الخارجي إلا بتصريح يعتبر الحصول عليه أمراً مستحيلاً إلى حدّ كبير!.

بعد "ايرز" الاسرائيلي، دخلت إلى نقطة الفحص التابعة للسلطة الفلسطينية التي يرأسها محمود عباس، ثم بعدها نقطة التفتيش والفحص الخاصة بالأمن التابع لحركة "حماس".. هنا تتقاطع تراجيديا الحصار الاحتلالي، والانقسام الفلسطيني، كما لو أنهما اتفقا على تجسيد حالة "البؤس" على وجه سائق التاكسي الذي سينقلنا إلى فندق "المتحف"- حيث ينتظرنا به زميل المهنة الذي اعتدنا على سماع صوته عبر "الموبايل" على مدار عقد من الزمن، دون اللقاء وجها لوجه.

تحركت سيارة "التاكسي"، لتبدأَ رحلة الاستكشاف بالنسبة لي داخل قطاع غزة.. وما أن التقيت بزميلي الغزي، حتى قررنا أن الفندق فقط للمبيت؛ لأننا سنستغل الأيام الثلاثة للتعرف على كل قطاع غزة قدر الإمكان.

التحرك في مدينة غزة والمشي على شاطئها، ومرورا بالتجوال بكل مناطقها، جعلني اندهش بحق.. فهذا المكان الذي يزداد فقرا وبؤسا، يشتمل أيضا على مشاهد تجعلنا نعتقد أن أهله ما زالوا يحبون الحياة أو أنهم قادرون على التأقلم المرحلي مع الصعوبات، كما يفضل أحد مثقفي غزة أن يفسر لي سرّ "المشهد المختلط".

في غزة ترى كل شيء، شوارع واسعة وجميلة.. وأخرى ضيقة ومهترئة.. سيارات حديثة "موديل السنة" وتلك قديمة يرثى لها. وتنطبق هذه المقارنة المتضادة أيضا على الأحياء السكنية والبنايات ومظاهر عديدة لافتة.

طبعاً، وسترى فقراء ونسبتهم عالية هنا، وأغنياء أيضاً، وإن كانوا يمثلون طبقة نخبوية بعض الشيء.. وقد أدركتُ هذا التباين الطبقيّ عند زيارة بعض مراكز التسوق الجميلة التي تضاهي مستواها تلك الموجودة في أي دولة مرتاحة ومفتوحة على العالم الخارجي.

بيد أن ما لفت انتباهي بموازاة الانطباع سالف الذكر، هو نسف صورة نمطية كانت لدي، ومفادها "غزة في وضع يجعلها تفتقر للكثير من الأشياء بفعل الحصار والتضييق"..
على العكس تماما، فمحال التسوق الضخمة، فيها منتجات غذائية وفيرة ومتنوعة وقادمة مما وراء الحدود رغم الحصار، حتى أن ثمة سلعا غذائية مستوردة لافتة غير موجودة في سوق الضفة الغربية التي لم تتعرض للحصار الذي شهدته غزة!

وجدت في سوق احد المحال التجارية الفخمة، سلعاً محلية متنوعة، قادمة من مصانع القطاع او الضفة الغربية وحتى منتجات إسرائيلية ومرورا بمنتجات غذائية وزراعية عربية، وعالمية لا سيما تركية وروسية وغيرها.

المفاجأة كانت، برصد العنب اللبناني وبغير أوانه- كوننا في فصل الشتاء- في قسم الفواكه والخضروات بأحد مراكز التسوق في غزة. الواضح، أنه جاء عن طريق مصر من خلال معبر رفح البري، ضمن مجموعة السلع والبضائع المسموح دخولها إلى القطاع، وتم حفظه بـ"البرادات" كي يكون صالحا لسوق غزة في هذا التوقيت.

إذاً، تغلّبت غزة على كسر الصورة النمطية ولو جزئيا ومعنويا بأنها ليست بلدا منسيا ومغيبا عن العالم ولو بمنظور السوق ومواكبة حاجياته ومقتضيات "العَوْلمة"!

في مقابل كسر الصورة النمطية عن بعض المشاهد في غزة ومقارباتها، لا يمكن إغماضُ العين عن معطيات ومُعايشات مؤلمة نتيجة حشر غزة بين مطرقة الحصار الاحتلالي، وسنديانة الانقسام الداخلي.. فتولدت جيوش من العاطلين عن العمل، وإقتصادٌ متردٍ، إضافة إلى انعدام حرية السفر سواء من جهة مصر أو عبر حاجز ايرز الاسرائيلي.

وقد كانت جملة "نفسي اطلع من غزة" اشد العبارات وقعاً وألما وشعورا بالعجز حينما خرجت من فم طفل عمره 11 سنة من مدينة رفح جنوب القطاع، في معرض رده على سؤالي له: "كيف العيشة في غزة"؟  

من عمق إجابة الطفل البريئة، نتذكر مليون مرة كيف أن الاحتلال قسمنا كفلسطينيين إلى مجتمعات كل منها له خصوصيته وهمومه.. فجاء الانقسام ليعمّق "الانفصال المناطقي" بين شطري الوطن المُجزّأ أصلاً بفعل الاحتلال.

وأما لغة الاخبار والاعلام، فهي مُدانة بتكريس هذا الانفصال لمجرد قول" الضفة وغزة".. واو العطف هنا لم تُستخدم على سبيل الجمع والمشاركة، بل تحولت إلى "واو إنقسامية"!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها