السبت 2020/02/15

آخر تحديث: 19:49 (بيروت)

"هل ستضربني بهذه العصا يا وطن؟"

السبت 2020/02/15
"هل ستضربني بهذه العصا يا وطن؟"
من المواجهات والاعتقالات يوم جلسة منح الثقة لحكومة دياب (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
"واحد، اثنين.. واحد، اثنين.. واحد، اثنين.. واحد، اثنين..".
توافد عناصر الجيش اللبناني إلى معابر "قلعة" مجلس النواب المحاصرة، لتأمين الحماية لنواب فاقدين للثقة منذ 17 تشرين، ولتأكيد انعقاد جلسة سوريالية يمنح خلالها المجلس، الثقة، لحكومة "البروفيسور" حسان دياب. حضرت أيضاً قوى مكافحة الشغب، وحرس المجلس في بعض الزوايا، وقوات خاصة بلباس أسود، ووجوه ملثمة، ومشاهد أخرى.. أوحت أنها كانت معركة بين جيش وشعب.

تعددت آليات المواجهة على الأرض. طبعاً، وجود العسكري مع رشاش حربي، في يده عصا وخلفه آلية حرب مجهزّة، يعطي المرء الإحساس بأننا خلية إرهابية منظمة، أو جيش آخر. ربما دخول العسكري إلى الساحة بهذه النفسية يمنحه الشعور بالتفوق، وحجة أن لديه الحق بأن يتصرّف على كيفه. تداول العديد من الفلاسفة والكتّاب موضوع فقدان العسكري أخلاقه لصالح تطبيق الأوامر، منهم ميشال فوكو، وجورج أورويل الذي كتب العام 1946: "ثمة من يحلّق في السماء الآن ويطمح بأن يقتلني، وإذا نجح في قتلي، سوف يرجع إلى سريره وينام من دون أي قلق أو تردد لأنه سيكون قد أنجز مهامه". ربما هذه الفكرة تنطبق على نحو أقل في سيناريو الثورة اللبنانية، الذي لا يمنح العسكري تجسيداً واضحاً لمفهوم "العدو". ومع غياب عدو واضح، نشهد انفصاماً جذرياً في طريقة التعامل. فمنهم من يحاول تطبيق الأوامر بطريقة محترمة، والآخر يلجأ إلى العنف غير المبرر، أي الضرب العشوائي، والصراخ وقلة الاحترام تجاه متظاهرين سلميين. وهو ما حصل في مواقع متعددة، تمّ توثيقها من قبل الثوار والإعلاميين.

"لوَرا يا حيوان!" دخلت موسوعة غينيس لشدة تردادها. آخرون استغلوا مواقعهم والفوضى للتحرش بالنساء الثائرات. إضافةً إلى ذلك، كانت فرقة الجيش، عند الصيفي، تقوم بتفتيش الثوار ومصادرة الأقنعة الواقية قبل دخولهم الساحة. لحظة دخولي الساحة مع بعض الأصدقاء، طوّقونا بحوالى 12 عسكرياً، وفتّشونا على نحو عنيف. عندما سألتُ الضابط: "أي قانون يسمح لك بهذا التصرف؟"، أجابني: "إيّه قانون، بجيبلك الأمم المتحدة كمان؟!" ساخراً من القانون اللبناني ومفهوم حقوق الإنسان بكامله: "أوكي وطن". ولمّا حاولتُ رفع الهاتف لتصوير الحادثة، قام أحد العسكريين، المصابين بفائق الحماسة في تلبية الأوامر، بالهجوم على الهاتف ودفعي. وارتفعت الأصوات فجأة، سيمفونية القمع "وااااعواااع.. افتحي الشنطة عم قلك!". وتدفيش من كل الجهات… "أوكي وطن".

هذه نبذة صغيرة عن القمع والتشبيح الذي تعرضنا له في الشارع، عدا الضرب والسحل. طبعاً هذا التصرّف لا يمثّل كل الجنود يومها. طريقة التعامل تختلف فعلياً، بحسب لطف الضابط ومنسوب التعاطف لدى العسكري. شاهدنا مثلاً أكثر من حالة، تخلى فيها العسكري عن العصا، بعدما قامت سيدة بمواجهته بجملة "بدك تضربني فيها هالعصا يا وطن؟". لكن هذه الانتصارات الصغيرة لا تحتسب، كونها تنبع من تمييز جندري، وعنف مفرط تجاه النساء.

في ذلك الصباح، كنتُ على الطريق البحرية، وكان طالب جامعي يقف إلى جانبي، وعنصر المغاوير يقطع الطريق أمامنا، وكنا نتحدث معه بالطريقة ذاتها "بكرا شو بدك تقول لولادك يا وطن؟ مين عم تحمي؟"، وغيرها من الأسئلة الوجودية التي تتماشى مع الحالة. كان العنصر يتناقش قليلاً معي، ويبتسم في بعض الأحيان. وكلما تحدث معه الشاب، رماه بنظرة "بدّي دعوسك". لاحظنا سريعاً، أنا ورفيقي في المواجهة، أن عقدة النظام الأبوي محرّك بديهي لتعاطف العناصر. يحترمني عندما أذكّره بأخته أو بوالدته حصراً. وهذا يفرض على إناث الثورة المراهنة على حسن العلاقة بين العنصر ووالدته، عوضاً عن المنطق الأخلاقي. وعلى الذكور أن يبتعدوا، أن يواجهوا العنف بالعنف، أو يتذوقوا طعم الجزمة لحظة الهجوم.

يرافق هذا التناقض تعدد سبل التعامل مع العسكر. من جهتنا، نرى أحياناً فيهم بشراً أسوياء، فنقول: "هو أيضاً يعاني هذا الوضع.. لا خيار لديه.. فعلياً لا يريد أن يكون هنا". وقد نكون على حقّ. قد يكره هو أيضاً مهمته في تلك اللحظة. لكنه في النهاية سيتحرّك لصالح "المؤسسة". وبحسب فوكو، فإن آليات "فنّ التوزّيع"، مثل التطويق (التدريب في ثكنات مغلقة ومعزولة)، التقسيم (لكل إنسان مكانه ولكل مكان إنسانه)، المواقع العملية (هذا الموقع مخصص لهذه الوظيفة) والتراتبية،... تمنح المؤسسة القدرة على السيطرة بشكل أفضل على سبل الإنتاج للحصول على أفضل منتج. وفي سرعة تنقلّه من مكان إلى آخر، ومن مهام إلى أخرى، يفقد الفرد القدرة على لمس الأشياء والإحساس بها، أو بوجودها حتى. يصبح بمثابة رغيف في كيس خبز. من هنا إلى هناك، طحن، مياه، ضرب، دعك، حرق، صقيع، تغليف، تقسيم، توزيع، واستهلاك. يصبح الواقع هو النظام، الـ"واحد اثنين، واحد اثنين، واحد اثنين" ويمشي مع الأرقام الأخرى. وحين يقف في الشارع، يضع عينه في عين رقم سابق يعاني انهيار الأرقام، ربما يشعر بالإنهيار القادم، في صميمه، لكنه يقف مثل اللافتات الإعلانية "يا جبل ما يهزك ريح"، وينتظر أرقام آخر الشهر.

في الليل، تجمّعنا من جديد في ساحة الشهداء، مجموعة لا تتعدى 200 شخص، وقرر 100 منا التوجه إلى الرينغ. لحظة وصولنا، استقبلنا حاجز بشري للجيش اللبناني، حاصرونا من كل الجهات، أجبرونا على الوقوف على الرصيف. وإذا قرر شخص التحرك قليلاً، فصلوه عن المجموعة، وأغلقوا المسلك. قررنا أن نمشي باتجاه الحمرا. تحركت مجموعة منا، ثمّ أغلقوا الرصيف. منعوا الآخرين من المرور، وقاموا بدفعهم في الاتجاه المعاكس.

أصبحنا حوالى 25 شخصاً. رافقنا حاجز الجيش البشري المؤلّف من حوالى 30 جندياً، وإلى جانبهم رتل آليات عسكرية لا يقل عن 20 آلية مدعّمة بسرية كاملة متكاملة. لم نفهم إذا كنا نمشي في الشارع، أو نقود الجيش إلى الصفوف الأمامية لمعركة عند الحدود. كان هناك استغراب من الجهتين. لم أعرف إذا كان المشهد مضحكاً أم مرعباً. لكن، حكمني شعور بأنني في المدرسة، والمدير "البروفيسور" أوكل الناظر ليراقبني في وقت الفرصة، لأني طفلة مشاغبة. ومثل طفل مشاغب، كنت أحمل قنينة مياه في داخلها دهان أحمر، أكتب على الحائط كل فترة "عسكر على مين؟"، الأحمر يتلاشى، ثم يمرّ العسكر "واحد، اثنين".. "واحد اثنين".

تذكرتُ حينها مقالة سمير قصير "عسكر على مين؟"، التي كتبها العام 2001، ويتحدث فيها عن التظاهرات الطلابية في مطلع السبعينات، وهتافاتها المألوفة: "وين قياداتك، يا عسكر؟.. بالحمرا بتسكر، يا عسكر.. عسكر على مين، يا عسكر؟.. عالفلاحين؟ يا عسكر". وضحكتُ لفكرة صمود هذه الشعارات في الشارع، رغم تحوّل مفهوم "العسكر" خلال السنوات الخمسين الماضية.

انتهت نزهتنا الغريبة مع الجيش، حيث بدأت، في ساحة الشهداء. هناك أقفلت المدرسة أبوابها. وراح الناظر يرتاح، مختتماً يوماً جديداً من الإنجازات على مستوى الإنتاج.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها