الأربعاء 2020/12/09

آخر تحديث: 15:20 (بيروت)

الشيخ بشار الأسد!

الأربعاء 2020/12/09
الشيخ بشار الأسد!
increase حجم الخط decrease
طوال عشر سنوات، تحجج بعض السوريين، ومن بينهم شخصيات عامة كالشاعر أدونيس، بأن الثورة السورية خرجت من المساجد، في معرض تبرير وقوفهم إلى جانب النظام الأسدي. وإن كان التبرير نفسه واهياً لأن حقيقة ارتباط النظام السوري بالخطاب الإسلامي المحافظ، ورعايته الممنهجة للإرهاب الإسلامي ليست سراً خفياً، فإن الموقف ككل يسقط اليوم مع الخطاب الذي ألقاه رئيس النظام بشار الأسد في الاجتماع الدوري الموسع الذي تعقده وزارة الأوقاف في جامع العثمان بدمشق، متحدثاً عن إسلامية الدولة السورية، ونافياً كل صفات العلمانية "الشريرة" عنها.

وطوال ساعة وربع الساعة تقريباً، قدم الأسد كافة المتناقضات التي يمكن تصورها في حديثه، وتحديداً عند "مساهمته القيمة" في الفلسفة المعاصرة بحديثه عن معنى العلمانية بأنها لا تعني فصل الدين عن الدولة مثلما تروج "الليبرالية الحديثة"، بل بأنها احترام الأديان مثلما ينص الإسلام، ما يجعل الدولة السورية المسلمة علمانية وفق هذا الطرح الأعوج، الذي كان لسنوات حاضراً في التحليلات الإعلامية والفكرية التي ناقشت هوية الدولة الأسدية، كنظام شمولي يجمع الفاشية البعثية مع الخطاب الديني المحافظ والقوة العسكرية الموجهة نحو الداخل، لخلق دولة أقلوية ينص دستورها "العلماني" على أن القرآن هو مصدر للتشريع وأن رئيسها يجب أن يكون مسلماً، بجانب تخصيص قانون مخجل لقانون الأحوال الشخصية، يفرق بين المواطنين على أساس أديانهم.

هذه الهوية لم تكن حاضرة أبداً في الخطاب الرسمي مثلما هي اليوم في التصريحات الفجة للأسد، بل كانت دائماً تجري في الكواليس وتأتي في سياق تعليقات على أحداث ذات صلة مثل استقبال الأسد وفداً من "كبار العلماء" ومنهن رجل الدين الراحل محمد سعيد رمضان البوطي العام 2011 بعد أشهر قليلة من انطلاقة الثورة الشعبية في البلاد، ولقاءات أخرى مع داعيات دمشق العام 2014. وهي تحركات كان النظام فيها يحاول ضبط الطائفة الأكبر في البلاد، عبر التحكم بمفاصلها الأساسية، دينياً واقتصادياً.



وبدا للحظة أن الخطاب كُتب من قبل أشخاص كثر، ناقض بعضهم بعضاً. ويجب التساؤل إن كان للمستشار الجديد في وزارة الإعلام، مضر إبراهيم، الذي التقى الأسد قبل أسابيع، دور في صياغة مصطلحات الأسد الجديدة، وتحديداً مصطلح "الليبرالية الحديثة" التي يغرم إبراهيم بالحديث عنها بمناسبة أو من دون مناسبة عبر صفحته الشخصية في "فايسبوك"، لدرجة أنها كانت النقطة الوحيدة التي ركز عليها في قراءته للخطاب بالتوازي مع بثه.

وبغض النظر عن ذلك، من الطبيعي أن يثير الخطاب استياء واسعاً في مواقع التواصل ضمن البيئة الموالية، وتحديداً بين "الأقليات" التي وقفت إلى جانب النظام باعتباره حامياً لها، وإن كان ذلك الاستياء مكرراً منذ العام 2018 مع مشروع القانون رقم 16 الذي أعطى صلاحيات واسعة لوزارة الأوقاف لم تحجم فقط من منصب مفتي الجمهورية لصالح وزير الأوقاف، بل أعطت الوزارة الحق في التحكم بمؤسسات مالية وتربوية، وبالإنتاج الفني والثقافي وتأميم النشاط الديني، فضلاً عن تأسيس جماعة دينية تحت مسمى "الفريق الديني الشبابي" خلافاً لما ينص عليه الدستور السوري الذي يوضح صراحة منع تشكيل المجموعات الدينية في البلاد.

والحال أن حديث الأسد عن العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة الأسدية بمجتمع السوريين، مستفز لدرجة أنه يلخص كل الأسباب الفكرية التي تجعل الثورة على النظام مبررة وردّ فعل طبيعياً ومنطقياً، فالدولة الأسدية تجاهر هنا بأنها دولة مسلمة محافظة تحمي المجتمع والأسرة من قيم "الليبرالية الحديثة"، أي الحريات الفردية بوصفها مشروعاً غربياً للسيطرة على المجتمعات وتفكيكها، بدلاً من حقيقتها كتطور طبيعي ضمن حقوق الإنسان. ويصبح الشخص الخارج عن العقيدة الجمعية السائدة "حيواناً"، وخائناً. أما من ينتقد تلك السياسة ويطالب بالإصلاح السياسي، فهو إما ساذج وجاهل وبحاجة إلى النصيحة، أو خائن وعميل وبحاجة للملاحقة والعقاب.

هذه الازدواجية تشرعن العنف الذي يقوم به النظام من جهة ضد النصف الأول من شعبه، وسياسة الوصاية التي تمارسها "القيادة الحكيمة" على النصف الثاني من جهة أخرى. وتصبح الدولة الأسدية بمجملها هنا في تواز تام مع الخطاب الروسي الذي تشف عنه تصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف في مؤتمر ميونيخ للأمن العام 2017، حول "التشارك بين روسيا والصين" والعودة بالعالم قروناً إلى الوراء من أجل استعادة النظام السياسي "الرجعي" الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر.

والأسد هنا، يضع نفسه ضمن محور عالمي مقاوم للحريات الفردية بوصفها خطراً، ويصبح دوره القائم على حماية المجتمع من "الأعداء الداخليين" المتمثلين بأفراد يختلفون عن السائد "الصالح"، مصدراً لشرعيته أمام الجمهور المحافظ الذي يقوم برعايته والحفاظ على وجوده عبر طبقة رجال الدين، ضمن حلقة مفرغة. ويتحدث الأسد هنا عن حقوق المثلييين وحقوق الأطفال وحرية التدين واختيار الهوية الجنسية والجندرية وغيرها من القيم الحديثة التي يجب الدفاع عنها عند الحديث عن حقوق الإنسان بالمطلق، والتي في الواقع تثير الرعب لدى الجمهور المحافظ لأنها تلعب على الخوف من الاختلاف بوصفه تهديداً للهوية الشخصية، مهما كانت درجة الهزلية التي يتحدث بها الأسد، عالية وكأنها نص هزلي في صحيفة ساخرة.

وبالطبع فإن الدولة البعثية/الأسدية فشلت طوال عقود في توليد هوية قومية، وأثبتت الحرب السورية طوال عشر سنوات أن فكرة وجود هوية سورية جامعة ليست سوى وهم رومانسي بأفضل الأحوال، حيث كرست سياسات النظام هويات طائفية يخشى بعضها بعضاً. كما أن الدين نفسه في المنطقة العربية عموماً يبقى المصدر الأول للهوية الفردية، بتخطيه المعنى الروحاني للكلمة إلى المعنى السياسية وبالتالي المعنى الوجودي. وتغذي هذه الديناميكة، وتتغذى من، سياسات دول المنطقة ككل ومن بينها سوريا التي باتت تجاهر بذلك من دون "الحياء" القديم الآتي أساساً من مخاوف بشأن الأقليات واستياء المجتمع الدولي، وهو أمر لم يعد مهماً اليوم مع سياسة العداء الرسمية التي تنتهجها الدولة السورية ضد القيم الإنسانية من جذورها، وليس فقط الشرائع القانونية الدولية أو الأعراف الدبلوماسية.

وحتى مع هذا الطرح، يبقي الأسد الباب موارباً لمغازلة الدول الغربية، بطرح نفسه كقائد إسلامي منفتح قادر على التحكم بجموع المسلمين الغاضبين عبر نسخته من "الإسلام الدمشقي الكول"، خصوصاً في فترة زمنية شهدت احتكاكات عنيفة بسبب الإسلام المتطرف في أوروبا، وتحديداً ما جرى في فرنسا خلال الأشهر الماضية عطفاً على الرسوم الكاريكاتورية الخاصة بالنبي محمد. ولا يعتبر ذلك جديداً، فالأسد قدم دعاية معاكسة عندما دعمت دمشق الهجمات على سفارات الدول الاسكندنافية في دمشق خلال المظاهرات العنيفة التي جرت احتجاجاً على الرسوم الكاريكاتورية حينها، حسبما نقلت وكالة "فرانس برس" العام 2010. وعبر اللعب على هذين التناقضين بوصفهما وجهين لعملة واحدة، يذكر الأسد بما كان قادراً على فعله وبما يستطيع منعه، في حال كان هنالك تعاون معه وفق الشروط الروسية للحل السياسي المزعوم في البلاد.

وفي المحصلة، يبدو المشهد كأنه دورة كاملة بدأت بالمساجد وانتهت بها، بالنسبة لجمهور الموالين للنظام على الأقل، لكن الفارق الوحيد أن الثورة السورية التي كانت مصدراً للخوف تبقى في صورتها المثالية حركة طالبت بالحرية والديموقراطية والكرامة وبمستقبل أفضل لجميع السوريين، أما نظام الأسد فهو مصدر لكل الظلام والشر والقيم الرجعية التي تعاكس تطور الحضارة البشرية، ويبدو فائض القوة الذي يقدمه اليوم مخيفاً، لتبشيره بقبضة حديدية لحكم السوريين وتلقيمهم طريقة التفكير الصحيح شاؤوا أم أبوا، بطريقة مشابهة ربما للثمانينيات والتسعينيات عندما كان النظام يتدخل في كل التفاصيل الفردية لخلق مجتمع متجانس، حتى من الناحية البصرية، عبر فرض الأزياء والملابس اليومية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها