الجمعة 2020/12/11

آخر تحديث: 15:47 (بيروت)

"حزب البعث" إن اشتكى من انتهاكات حقوق الإنسان!

الجمعة 2020/12/11
"حزب البعث" إن اشتكى من انتهاكات حقوق الإنسان!
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
أكثر ما يثير الاشمئزاز في "المقال" الذي نشرته صحيفة "البعث" الحزبية الرسمية، الخميس، بالتزامن مع "اليوم العالمي لحقوق الإنسان"، ليس تركيزه على كذبة حقوق الإنسان في العالم المعاصر، فقط، بل المفارقة المذهلة الآتية من أن الجهة التي تنتقد تزايد انتهاكات حقوق الإنسان مؤخراً، هي الجهة المسؤولة عن أكبر الفظائع الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية على أقل تقدير.

ولا يكتف المقال الفذ الذي كتبه الرفيق البعثي د. معن منيف سليمان، المحرر في الصحيفة والمقاتل في صفوف ميليشيات رديفة لجيش النظام السوري في ريف حماة الشمالي والشرقي خلال سنوات الحرب في البلاد، بالحديث عن أن حقوق الإنسان والديموقراطية "وسيلة للسيطرة والابتزاز" تستخدمها الدول الغربية من أجل التدخل في السياسات الداخلية للدول "الممانعة للمشاريع الاستعمارية"، بل امتد إلى تقديم أمثلة زائفة عن تلك الكذبة مثل "طريقة تعامل دول الاتحاد الأوروبي مع النازحين وطالبي اللجوء" حسب وصفه.

وبالطبع لا فائدة ترجى من مناقشة الأكاذيب التي تضمنها المقال، والتي تتكرر كل يوم على الشاشات السورية الرسمية منذ عقود، فالنظام السوري هنا يتخيل نفسه كقوة مؤثرة ضمن محور عالمي مقاوم للإمبريالية، ويروج لنفسه أمام الجمهور المحلي بهذه الطريقة وكأنه "روبن هود" المحاصر في غابة شيروود، من قبل الدول الغربية، لتحقيق هدفين: الأول إعطاء نفسه الشرعية اللازمة للحكم باللعب على المخاوف الجمعية المحافظة بالتركيز على "الفجور" الذي تعنيه حقوق الإنسان، والثاني تبرير الأوضاع المعيشية والاقتصادية المتردية والنزعة العسكرية والأمنية الشديدة، عبر وضع البلاد دائماً في حالة حرب أيديولوجية.

وليس من الغريب بالتالي أن تتجاهل أدبيات النظام عموماً الحديث عن الانتهاكات الأكثر قسوة لحقوق الإنسان، كالقتل والتعذيب، وتركز على أن حقوق الإنسان تعني الترويج لقيم إنسانية مثل حقوق المثلييين وحقوق الأطفال وحرية التدين واختيار الهوية الجنسية والجندرية وغيرها من القيم الحديثة التي يجب الدفاع عنها عند الحديث عن حقوق الإنسان بالمطلق، والتي في الواقع تثير الرعب لدى الجمهور المحافظ لأنها تلعب على الخوف من الاختلاف بوصفه تهديداً للهوية الشخصية، التي تعادل في سوريا الهوية الدينية/الطائفية، والتي يتم التحكم بها بدورها عبر طبقة رجال الدين المرتبطين بالسلطة.

على أن الترويج الرسمي المستمر لهذا الموقف الأيديولوجي الكارتوني، يثير فقط سخرية السوريين، بما في ذلك الموالين للنظام أنفسهم كما يظهر في متابعات إعلامية محلية تحدثت عن المقال نفسه باستهزاء، كما أن شخصيات موالية مشهورة بدأت مؤخراً بالحديث عن الانتهاكات المستمرة في البلاد، ليس بوصفها أخطاء فردية أو دعاية سامة يجب تكذيبها، بل بأسلوب أكثر براغماتية. على سبيل المثال أنكر رئيس النظام بشار الأسد في تصريحات إعلامية متعددة وجود التعذيب في البلاد من أساسه، لكن الممثلة سلاف فواخرجي، على سبيل المثال، تحدثت في لقاء إعلامي مع قناة "دويتشه فيلله" الشهر الماضي، عن التعذيب بوصفه مأساة لا تكفي لتغيير مواقفها الموالية للنظام، والآتية من مخاوف أمنية عميقة آتية من الصراع الطائفي الذي رعاه النظام في البلاد طوال عقود.

وبحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" فإن النظام السوري يمارس انتهاكات ممنهجة منها القتل خارج نطاق القانون عبر عدة أشكال، والتعذيب المؤدي للموت، وأحكام الإعدام عبر محاكم تفتقر إلى القانونية والشرعية، والقصف العشوائي أو المتعمد على الأحياء السكنية. بالإضافة لاسخدامه الأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً ضد الشعب السوري، بموازاة عمليات الاعتقال والتغييب القسري وقمع الحريات والعنف الجنسي وغيرها، علماً أن النظام السوري لم يقدم أي تقرير للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة منذ العام 2004.

وأظهر تقرير خاص أصدرته "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" مقتل 14388 سورياً تحت التعذيب من بينهم 14235 شخصاً قتلوا في معتقلات نظام الأسد منذ العام 2011. ويمكن الدلالة على الرعب الموجود هناك بالنظر إلى تسريب المصور "قيصر" المنشق عن النظام 55 ألف صورة مروعة من داخل المعتقلات الأسدية، بما يظهر التعذيب كسياسة ممنهجة هناك.

ويجب القول أن عمليات القتل والتعذيب والاعتقال ليست شيئاً طارئاً على حياة السوريين بعد الثورة السورية العام 2011، والتي طالبت بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، بل هي شيء اختبره السوريون وعايشوه طوال عقود، كما لم يسلم غير السوريين من شر نظام الأسد، فعلى سبيل المثال، توثق مؤسسة "أمم" الحقوقية اللبنانية وجود 782 لبنانياً في السجون السورية، فيما تقدر منظمة العفو الدولية "امنستي" أن سجن تدمر سيئ السمعة، اعتقل أكثر من 20 ألف مواطن سوري بين العامين 1980 و1990، بتهم سياسية، ولا توجد معلومات دقيقة عن أعداد السجناء والقتلى هناك، فيما تطلق المنظمة نفسها تسمية "المسلخ البشري" على سجن صيدنايا العسكري بوصفه أكثر الأماكن إثارة للرعب في التاريخ، مع الإشارة إلى حصول 13 ألف عملية إعدام لمدنيين وسجناء سياسيين هناك بين العامين 2011 و2015.

ولا يعتبر حزب البعث الذي ينتقد الحريات في العالم عبر صحيفته الرسمية، منفصلاً عن النظام السوري الأسدي، بل هما شيء واحد في حقيقة الأمر، فالحزب استولى على السلطة العام 1963 وبات "الحزب القائد للدولة والمجتمع"، ولم يتغير ذلك بعد الانقلاب العسكري الذي قام به حافظ الأسد العام 1970، بل تعزز دور الحزب بشكل أكبر، ليتحكم النظام عبره بتفاصيل الحياة اليومية للسوريين، والتي تعتبر بدورها انتهاكات لحقوق الإنسان، على مستوى مختلف لا يمس الحق في الحياة مثل الانتهاكات السابقة.

ويعني ذلك أن الحزب عمل على أدلجة السوريين منذ سن مبكرة، فتم إنشاء منظمات بعثية يجبر الأطفال على الاشتراك بها خلال سنوات الدراسة وهي "طلائع البعث" و"شبيبة الثورة"، مع إجبار السوريين على الانتساب لصفوف حزب البعث. كما أن الحزب نفسه يمارس عنصرية مروعة بحق الأقليات العرقية والدينية، وهو ما يتجلى في الدستور السوري نفسه الذي يعتمد أولاً على القرآن كمرجع أساسي للتشريع، إلى جانب ممارسات طويلة الأمد حرمت مواطنين سوريين من الجنسية بسبب خلفيتهم العرقية كالأكراد بالنظر إلى مبدأ العروبة التي ينادي بها الحزب، وصولاً إلى تخصيص قانون مخجل لقانون الأحوال الشخصية، يفرق بين المواطنين على أساس أديانهم.

واللافت أن خطاب النظام الدبلوماسي والإعلامي ضد حقوق الإنسان، بات أكثر فجاجة عما كان عليه في أي وقت مضى، وبلغ المشهد ذروته قبل أيام عندما ألقى بشار الأسد خطاباً من مسجد العثمان في دمشق، هاجم فيه الحريات الفردية بوصفها مشروعاً غربياً للسيطرة على المجتمعات وتفكيكها، بدلاً من حقيقتها كتطور طبيعي ضمن حقوق الإنسان، متهماً كل من يطالب بالحريات والإصلاح بأنه "حيوان" أو "خائن".

وإن كان النظام الأسدي - البعثي يحلم بأن يتحول العالم كله إلى مكان لا تتواجد فيه حقوق الإنسان وتصبح فيه كل الدول عبارة عن أنظمة دكتاتورية مجرمة مشابه له، بحيث لا يصبح هو العنصر الشاذ الذي يشار إليه بالأصبع باحتقار، فإن ذلك الحلم يبقى بعيداً عن التحقيق طالما أن هنالك مدافعين عن قيم الحرية والديموقراطية حول العالم، من صحافيين وناشطين وأفراد شجعان ومؤسسات مسؤولة، يرفعون صوتهم ويكسرون حاجز الخوف من أجل مستقبل أفضل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها