الخميس 2020/11/26

آخر تحديث: 19:11 (بيروت)

"مناورة الملكة".. ما بعد الشطرنج

الخميس 2020/11/26
"مناورة الملكة".. ما بعد الشطرنج
increase حجم الخط decrease
قدّم الروائي الأميركي والتر تيفيس (1928- 1984) روايته The Queen’s Gambit "مناورة المَلِكَة"، العام 1983، وهي التي تستقي عوالِمَها من لُعبة الشطرنج، عندما كانت آنذاك مَحطَّ صراعٍ مُحتدِم بين السّرديات الكبرى. فالحرب البَاردة بين المُعسكرين الرأسمالي والشيوعي ظلَّتْ تؤسِّسُ لكلِّ إنشاءٍ أو خطاب، سواء في السِّياسة أو الأدب أو الرِّياضة. 

لم تكنْ بعدُ موجاتُ إعلامِ الألفيّة الأميركيّة قد تكرَّست، على النَّسق الذي تسيَّدت به المشهد الكوني للإعلام منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، حتّى يومنا هذا. وعليه فإنّ كلَّ الحَرَكات والسَّكَنات تنطبعُ بطابَعٍ صراعي، إذ برزت المنافسة بين القُطبين في شتّى الفضاءات من كوريا إلى كوبا على صعيد الجيوبولتيك، وصولاً إلى رحابة حرب النّجوم، وليسَ انتهاءً بسنتيمترات الصِّراع في حدوده الضَّيقة المتمثلة برقعة الشطرنج. تلك الكونيّة في الصراع هي ما عوَّم اللُّعبة وجعلها شأناً عاماً، وأكثَرَ شعبيةً، إنْ لم نَقُل قُوتًا يوميًّا للنّاس، خاصّةً في روسيا الشيوعيّة. 

اليوم، وبعد قرابة أربعين عامًا على صدور الرِّواية، حدثتْ خلالها تحوّلاتٌ سياسيّةٌ كُبرى، إذ لم يتفكُّكِ الاتحادُ السوفياتيّ فحسب، بل كِدنا نشهد، على وقع نهاية ولاية ترامب، أُفولًا أو زعزعةً لهيمنة الاتحاد الأميركيّ... في هذه الأجواء، أقدمت شبكة "نتفليكس" التّلفزيونية على خطوة تبدو خارج سياق أجندة وتوجهات الشبكة التي تُوصَف بالمُستفزَّة والإشكالية عادةً، إذ حولت رواية تيفيس إلى مُسلسل تلفزيوني يضمّ سبع حلقات. 

تدور قصّة المُسلسل هذه المرّة، بعيداً من محاولات السَّطو على البنوك، وتأويلات تيار ما بعد الحقيقة في تفسير تَّرويج البيدوفيلي، وهو اتّهمت به الشبكة مؤخَّرًا، ووصلتها تهديدات بالمقاطعة. على العكس من ذلك، جاءت السُّباعية المُسلسلة، بتوقيع المُخرج سكوت فرانك، لتنحتَ على مَهلٍ وبواقعية، سيرةً ذاتيّة للاعبة شطرنج تعيش في أميركا، من ستينيات القرن الماضي، تُدعى إليزابيت هارمون (أدّت دورها آنيا تيلور- 24 عامًا).   


تُسايرُ قصّة السُّباعيّة، حياةَ اللاعبة هارمون، وتقدِّمُ لنا بدايةً، الخلفيّة الاجتماعيّة التي تتحدرُ منها. ثمّ لا تلبث أن تقتحمَ مع هارمون، الطِّفلة اليتيمة، أجواءَ العيش في مَيتم، لا تنزُّ منه القيودُ والضّيق بقدر ما يُركّبُ نُزلاءَه ويعجنهم بالعُزلة والنّبذ. لكن عملًا بمبدأِ "غير المتوقَّع" يمنحُ هذا المكان الكئيب، البطلة، أولى الأيادي الخفيّة التي ستنهضُ بها وتدفعُها أكثر فأكثر نحو المركز، مركز بطولتها وماهيّتها، المقصود هنا شخصيّة السيد شايبل (أدّى دوره بيل كامب) البَوّاب الذي سيُهديها مفاتيح اللُّعبة، ويكشفُ سرَّها المحجوب لها.

في غمرة هذه الوَمضات الإنسانيّة، التي تعصفُ بوجدان الطفلة اليتيمة، بينها وبين أترابِها من جِهة، أو مع السيد شايبل من جهة ثانية، ستتشكّلُ علاقةٌ موازية يُمكنُ وصفُها بالعلاقة الذُّهانيّة بين البطلةِ، ذات الأعوام التّسعة، وسَقفِ غرفتها الذي يتحوّل بفعلِ الشَّغف والعقاقير المُهدِّئة لا إلى رقعة شطرنج مُتخيّلة، إنّما يتجسّد على هيئة قرين شَبَحيٍّ، أشبه بِجانِ الشُّعراء ووحي الأنبياء. 

يُمرِّرُ المُخرج هنا كاميرا رفيعة تُطلُّ على الماضي وذكرياته، وتُشرف على المُستقبل وإنجازاته، وذلك عندما تستعين البطلة – بعدما صارت شابّة – بهذا السَّقف/الوحي لتحلَّ مسألةً شطرنجيَّة مُعقّدة، وتتغلَّبَ في الحلقة الأخيرة على غريمها الروسي بورغوف (أدّى دوره مارسين دوروسنسكي). وعليه، فإنَّ السّقف هنا، سواء كان سقف غرفة حقيرة أو سقف صالة فخمة من صالات موسكو المُذهَّبة، خدمَ البطلة من جهة، كما استطاع المخرجُ تسخيرَه لتمرير الكثير من مكامن احترافيّته في تصميم الرُّؤيا البصرية ونقلها إلى المُشاهِد. 

الحُمولة الإنسانيّة التي يُصَوِّرُها المُسلسل، تتناول العلاقة الشَّفيفة التي جمعت هارمون بانتقالِها من المَيتم إلى بيت أُمٍّ أخرى تتبناها (أدَّت دورها مارل هيلر). وبذلك تنتقل لاعبة الشطرنج من فضاء الرطوبة الكَئيبة، إلى فضاءٍ أكثر بهجة وحُرِّية وألوانًا، وتختبر تجربةً عاطفية تُراوِحُ بين الصدّاقة والبُنوّة. يُرافق هذه العملية الانتقالية، كادرٌ احترافي ينقل للمُشاهِد الفوارق اللونيّة بين حيواتٍ مُتناقضة، أو ما بين مَدٍّ الحياة وجَزْرِها. 

ولو تم تفصيل حقول المَدّ والجَزْر أكثر، فإنّ رمزيّةَ معاقرة الكحول، وتفتّحَ الذَّوق المُراهِق على لذعة جِدّة الشّراب في اللّسان، وما يرافقها من عوارضَ انتشائيَّةٍ في الجسد، مقارنة بإدمان العقاقير المُهدِّئة في الملجأ وما يرافقها من عوارض انسحابية، فإنّ هذه الثُّنائية هي المدّ والجزر من حيث مزاجِ الآلةِ بالكيمياء، لكن كيفَ تجسّد المَدُّ والجَزرُ من حيث العلاقات الاجتماعية الأعقد لذعًا وانسحابًا؟

تلتبسُ في حياة البطلة، علاقاتٌ عاطفيَّة وغراميَّة، مُتشابِهُها أكثر من مُحْكَمِها، بيد أنّ هذه العلاقات تتضافرُ في الحلقة الأخيرة لتُصوّرَ لنا روح الفريق الفردانيَّة الداعمة، لتبدوَ الحبكة هنا أقرب للوضوح الهش، منها إلى حِيَل الخفاء الأدبي الأمتن، حَيثُ يظهر اللاعب الأميركي عاطلًا عن الأمل وعن الدّعم الدعائي أو السياسي، سوى شبكة الصداقات الحميمة الرّديفة، مُقارنة بروح الفريق الروسي الجماعيّة التي تضع خِططاً، وتهندسُ انتصارات من خلف المعاطف الجلدية السَّوداء لرجال الـKGB. 

مع ذلك لا تقوى هذه الروح الرُّوسية الجماعية، رغمَ كلِّ عنادها وتصوير ممثليها بوجوه إسمنيتة مُعادية للابتسامة، أن تصمدَ أمام الرُّوح الأولى المُفعمَة أبدًا بكلّ ما هو حميمي ومبتهج. الأمر الذي يُحيلُنا إلى مُساءلة تلك الواقعية بطبعتها الأميركيّة، التي وإنْ تعزف أحيانًا عن تقديم كليشيهاتها الأثيرة حول بطل "سوبر هيرو" يُنقِذ العالم بقوّته، بيد أنّ البديلَ الجاهز له، أو وجه العِملة اللصيق لن يكونَ أكثر من بطل هو "سوبر إيموشينال" نسويٌّ مُثقَلٌ بهموم المُلوّنين تارةً، أو ليبرالي خلوق، وصاحب رسالة جاهزة يُلقيها بوجهِ الآخَر الغُفْل! الاتحاد السوفياتي كلُّ أبطاله ذكور، كما أشار المُسلسل عَرَضًا.

مقابل هذا المَدّ الصاعد في تمثيل النّجاح، والأيادي الخفيّة التي تتبناه وتدعمُه، لم يُهملِ المسلسل حالات الجَزْر ونَكساتِه المُحبِطة التي خيّمت على حياة البطلة، بل إنّ القصّة توطِّئ لنفسها من خلال مأساة موت الأم بحادث سيّارة، مع ذلك فإنّ التجسيد الحقيقي للفقد (أو بالأحرى: قتل الأمومة عملًا بمرثيّة المُتَنبّي "الموت ضربٌ من القتل") يأتي مع موت الأم بالتّبني، لا الأم الحقيقيّة. 

الموت هنا مُفترق أكثر تراجيدية ووعيًا في حياة الشّابة مقارنة بوعي الطّفلة، لأنّه دفعها صوب حقيقة العالم بما هي إنسانة تقاسي هموم الحياة لا لاعبة عبقرية وكفى! وكم ممكن أن تَحدّ  هكذا ظروف من شرط العبقرية، قبل أن يضعَها الموت أمام امتحان أكثر صعوبة ستتعرّف به على ذئبية العلاقات التي تحكمُ أفراد أيّ مُجتمَع. 

أخيراً: صرَّح الغراند ماستر الشهير، غاري كاسباروف، والغراند ماستر بروس باندولفيني، أنّهما عملَا مُستشارين فنّيّين للتدقيق من وراء كلِّ نقلة قامَت بها إليزابيث هارمون في رحلتها من قبوِ الملجأ ومبارياتها الأولى مع السيد شايبل، وانتهاءً بجولتها الحاسمة ضد بورغوف. 

كذلك، لا بدّ من الإشارة إلى جملة من التناصات التي يقع المسلسل في سياقها سواء على صعيد السينما والأفلام التي تروي لنا قصص أبطال الشطرنج، أمثال بوبي فيشر وبوريس سباسكي Pawn Sacrifice-2014 مثلًا. بل إنّ كاتب الرواية تيفيس نفسه، استقى عوالم روايته الخيالية من اللقاءات الواقعية التي جمعت هذين البطلين الأميركي والرّوسي. ولا ننسى كُتب التنمية، مثل كتاب الهنغاري لازلو بولغار المعنون بـ"قُم بتربية عبقري" الصادر العام 1987، الذي يتحدّثُ فيه عن الأُسس التي وفَّرها لبناته الثلاث الغراند ماسترز، جوديت وسوزان وصوفي، لِيَكُنَّ رائدات على مستوى العالم في لعبة الشطرنج... لندرك بعدها مدى جدّية مشروع "المناورة" روايةً، ومسلسلًا. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها