الأربعاء 2020/11/18

آخر تحديث: 22:29 (بيروت)

وثائقي "ARTE" عن لبنان: تشويه للتاريخ وتبييض لصفحة إسرائيل

الأربعاء 2020/11/18
وثائقي "ARTE" عن لبنان: تشويه للتاريخ وتبييض لصفحة إسرائيل
increase حجم الخط decrease
قبل أيام، أعلنت محطة "ARTE" عرض فيلمين وثائقيين عن لبنان في اطار سهرة خاصة، ليلة الثلاثاء، لكن فئة كبيرة من اللبنانيين المقيمين في فرنسا أبدت امتعاضها من الوثائقي الأول الذي حمل عنوان "لبنان البلد المعذب" وعبّرت عن ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي.

وفقاً للمحطة الفرنسية الألمانية، يهدف الوثائقي إلى "الغوص في تاريخ لبنان لتبيان أسباب الخراب الذي يعرفه اليوم"، وبدأ بمقابلة مع الصحافية حنين غدار قالت فيها: "تتعدد روايات حول تاريخ لبنان لدرجة أنه لم يتم اعتماد رواية واحدة في المناهج الدراسية"، ما أوحى بأن الوثائقي سيتطرق لمختلف وجهات النظر، لكن الواقع أتى مغايراً.

فالفيلم الذي أنجزه المخرج الإسرائيلي دوكي درور (Duki Dror)، وتوقف خلاله مطولاً عند سنوات الحرب الأهلية، عرض رواية طرف واحد لاستمالة المشاهد الأوروبي غير الملم بهذا الملف. وكانت البداية بتزوير فاضح للتاريخ، عند التطرق لاتفاقية سايكس - بيكو، بإظهار إسرائيل في الخريطة، في إيحاء إلى وجود هذه الدولة حتى قبل نهاية الحرب العالمية الأولى.

ومن دون تناول للنكبة ومآسيها، على اعتبار أن إسرائيل وجدت قبل نشأة لبنان وفقاً لصناع الفيلم، تم القفز إلى نكسة العام 1967، فصوّرت حرب الأيام الستة كتهديد لمسيحيي لبنان القاطنين في محيط عربي معادٍ لهم. ومن هنا بدأ التطرق إلى مرحلة تعزيز الفلسطينيين لحضورهم في لبنان: النزوح، اتفاق القاهرة، أيلول الأسود. لكن مؤسس حركة "حراس الأرز"، إتيان صقر، اعتبر، في مقابلة أجريت معه، أن الغاية من الوجود الفلسطيني في لبنان كانت السيطرة الكاملة على هذا البلد، كما حصر الانقسام الداخلي اللبناني في الخلاف حيال القضية الفلسطينية.

وعلى هذا المنوال أكمل الفيلم مستحضراً عمليات فلسطينية وقع ضحيتها أطفال إسرائيليون إلى جانب عملياتهم في أوروبا كتلك التي حصلت في مدينة ميونيخ الألمانية العام 1972، وعمليات خطف الطائرات. وهكذا، لم يكن ما فعله المخرج الإسرائيلي إلا شيطنة كاملة للفلسطينيين، خصوصاً أنه لم يعط مساحة كافية لشخصية فلسطينية كي تعرض وجهة النظر المقابلة في ما يتعلق بطرد هذا الشعب من أرضه وما ارتُكب في حقه من مجازر.

والهدف من ذلك، تقديم رواية أحادية الجانب عن الحرب الأهلية للإيحاء بأنها اندلعت بسبب "الأشرار الفلسطينيين". وأعطت شيطنة الفلسطينيين على هذا النحو، انطباعاً بأن الأحزاب والميليشيات المسيحية كانت محقة في حمل السلاح، وعليه صورت الحرب الأهلية كنزاع مسلح بين الجانب المسيحي المتأهب للدفاع عن بلده، وبين الفلسطينيين، من دون وجود أطراف لبنانية ودولية أخرى. كما برر الفيلم الجرائم التي ارتكبتها المليشيات المسيحية، خصوصاً في تل الزعتر، بأنها "رد فعل مبرر" على مجزرة الدامور، استناداً إلى رواية إتيان صقر حصراً. ومن اللافت حقاً، التناول السريع لتل الزعتر على عكس مجزرة الدامور التي غاص الفيلم في بعض تفاصيلها.

إلى ذلك، أوحى الفيلم بأن الفلسطينيين كانوا على درجة عالية من التسلح والتنظيم العسكري فيما مسلحو الطرف الآخر لم يكونوا أكثر من "هواة في العلوم العسكرية"، أي أنهم كانوا دائماً في وضعية دفاعية. ولم يختلف الأمر في ما يتعلق بمجزرة صبرا وشاتيلا، حين صورت وكأنها سوء تقدير من قبل المقاتلين المسيحيين الذين ظنوا بداية أن الفلسطينيين هم من اغتال بشير الجميل. وفيما لم يقم الوثائقي بتبرير تلك المجزرة بشكل مباشر، إلا أن شيطنة الفلسطينيين طوال الفيلم، ستدفع المشاهد الأوروبي، أو غير المطلع على تفاصيل تلك الحقبة عموماً، إلى البحث عن أسباب تخفيفية وحتى تبريرية للمجزرة. أما التشويه الأكبر فكان التعتيم الكامل على دور ووجود أحزاب الحركة الوطنية آنذاك.

ولا يختلف لبنانيان على أن الموقف من القضية الفلسطينية كان سبباً من أسباب التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً مع التجاوزات التي ارتكبها الفلسطينيون، لكن ماذا عن موقف الأطراف اللبنانية المساندة للفلسطينيين، والذين كانت لهم مشاكل كثيرة مع النظام اللبناني في صيغته آنذاك؟ لماذا لم يُمنحوا فرصة عرض وجهة نظرهم؟ وكأن كل اللبنانيين اصطفوا ضد الفلسطينيين.

من جهة أخرى، لم يتناول الفيلم خلل النظام السياسي اللبناني الذي كان من الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب الأهلية. فماذا عن الحركة الوطنية وبرنامجها الداعي إلى إلغاء الطائفية السياسية وتصحيح التمثيل الشعبي وإصلاح الإدارة العامة، لا سيما أن بعض السياسيين والمحللين اللبنانيين يعتبرون أنه كان في الإمكان تفادي الحرب فيما لو تجاوبت الأحزاب المسيحية مع دعوات الإصلاح هذه.

ويحيل هذا التجاهل المتعمد، البعيد من الموضوعية المطلوبة في إنجاز مثل هذه الأعمال، إلى طرح علامات استفهام حول مهنية القيمين على "ARTE"، حيث استمرت المحطة في تشويه الحقائق و/أو عرضها على نحو مجتزَأ من خلال تبييض صفحة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، فتعمدت إظهار الاسرائيليين كشعب مهدد على الدوام، وبالتالي لم يكن اجتياح العام 1978 ومن بعده اجتياح العام 1982 إلا "لضمان سلامة البلد". كما جلب المخرج، كلمة لمناحيم بيغين، يقول فيها أن "الدعم الإسرائيلي للمسيحيين هو لضمان عدم إبادتهم"، وهي عبارة بالغة الحساسية للمشاهد الأوروبي لأنها تلعب على وتر الإحساس بالذنب تجاه ما تعرض له اليهود في أوروبا.

بالتالي، سيجد المشاهد نفسه أكثر تقبلاً لرواية الفلسطيني الساعي لإبادة الاسرائيليين، وسيتعاطف حكماً مع حلفاء إسرائيل في الداخل اللبناني، على اعتبار أنهم يواجهون مصيراً مشتركاً، وسيتبع ذلك تبرير الجرائم الاسرائيلية التي أتى الفيلم على ذكرها على نحو هامشي ومخفف.

والحال أن الفيلم حاول الإيحاء بأن المسؤول عن مجزرة صبرا وشاتيلا هم السوريون، عبر استحضار دور إيلي حبيقة في هذه المجزرة، وتقديمه في صورة العميل المزدوج المتعاون مع الإسرائيليين والسوريين على حد سواء، وهي مغالطة تاريخية فاضحة، علماً أن النظام السوري ارتكب فظائع كثيرة في لبنان، لكن الوثائقي المذكور أمعن في الخطأ في هذا التفصيل. وأكمل الفيلم مدعياً بأن السوريين نجحوا في إلصاق "أعمالهم القذرة" بالإسرائيليين، وأن رئيس النظام السابق حافظ الأسد، تلاعب بهم. وعليه، سعى الوثائقي إلى إجهاض الرواية المضادة التي تُحمل إسرائيل، بشخص أرييل شارون، جزءاً رئيسياً من المسؤولية عن صبرا وشاتيلا.

في السياق، أمعن الفيلم في عرضه الجزئي للوقائع التاريخية من خلال تركيزه على ترحيب الجنوبيين بالجيش الإسرائيلي. وفيما لا ينكر أحد هذه الواقعة التاريخية، إلا أن الفيلم همّش محطات تاريخية أخرى بالغة الأهمية، فلم يأت على ذكر الاعتداءات على جنوب لبنان منذ نشأة إسرائيل، ولم يذكر مقاومة اللبنانيين للاحتلال الإسرائيلي، سواء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية أو "حزب الله" حتى العام 2000. وأبقى بذلك على رواية الترحيب بالإسرائيليين، بموازاة خلطه بين العمليات التي ارتكبها الحزب ضد المصالح الغربية، كاستهداف القوات الأميركية والفرنسية وتفجير السفارة الأميركية وخطف الأجانب، وعملياته التي استهدفت الاسرائيليين، لتصوير أن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي أتت في سياق هذا "الإرهاب الممارس".

واستمر الفيلم في الترويج للدعاية الإسرائيلية في فترة ما بعد الحرب الأهلية. ففي مقابلة مع فهد المصري، رئيس المكتب السياسي لجبهة الانقاذ الوطنية السورية، قدم الأخير روايته الخاصة عن اغتيال رفيق الحريري. واعتبر المصري، الذي تدور شكوك حول علاقاته بالإسرائيليين، أن إيران حرضت سوريا على اغتياله لتجد دمشق نفسها في مأزق ما يضطرها لسحب قواتها من لبنان فتخلو الساحة لطهران.

وتصب هذه الرواية في صالح إسرائيل لأنها تمنح تل أبيب ذريعة إضافية في ما يخص التهديد الإيراني لها، خصوصاً أن المحكمة الدولية دانت أحد عناصر الحزب في القضية. وعندما تناول الفيلم حرب تموز 2006 لم يذكر أن سبب إقدام الحزب على اختطاف الجنديين كان لمبادلتهما بأسرى لبنانيين لدى اسرائيل. وبغض النظر عن تقييم خلفيات الحرب وأسباب إقدام "حزب الله" على عملية الأسر، إلا أن المهم هنا هو حقيقة تعمد الوثائقي تغييب رواية رئيسية لأحد الأطراف، من أجل إظهار أن "حزب الله" استفز إسرائيل من دون مبرر، ليصبح بذلك الخطر الجديد المحدق "بالإسرائيليين المسالمين" بعد الفلسطينيين.

ولم يكتف الفيلم بكل ما سبق، بل اختُتم بفضيحة من العيار الثقيل عندما أكد أن ثورة 17 تشرين الأول 2019، ما هي إلا محاولة من اللبنانيين لاستعادة بلدهم بعد سنوات من الأزمات والحروب. والمشكلة هي أن المخرج الإسرائيلي لم يأت إطلاقاً على ذكر منظومة الفساد وعيوب النظام السياسي الطائفي والأزمة الاقتصادية الهائلة. بالتالي، وبعد كل ما عرض على مدى ساعة ونصف الساعة، لن يستنتج المشاهد الأوروبي إلا شيئاً واحداً: ثورة اللبنانيين ليست إلا ضد الأشرار الذين قدمهم الوثائقي، وكأن الرواية الإسرائيلية تلقى صدى واسعاً في الداخل اللبناني!

طبعاً، هناك وقائع تاريخية لا يمكن لأحد انكارها ولا تسعى هذه السطور إلى تكذيبها. لكن العرض المجتزأ والتشويه المتعمد للأحداث وغياب المهنية والموضوعية في عرض مختلف وجهات النظر، يدفع إلى الشك في نوايا المخرج ومحطة "ARTE".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها