السبت 2020/11/14

آخر تحديث: 16:50 (بيروت)

زياد تقي الدين.. اللبناني الذي "جرَّم" ساركوزي ويحاول تبرئته!

السبت 2020/11/14
زياد تقي الدين.. اللبناني الذي "جرَّم" ساركوزي ويحاول تبرئته!
increase حجم الخط decrease
يقال على سبيل التندر أن "وراء كل فضيحة فرنسية لبناني"، فأسماء مثل عماد لحود وروبير بورجي، شغلت الرأي العام الفرنسي في قضايا متعددة. وقبل ثلاثة أيام، افتعل زياد تقي الدين "زلزالاً" في الأوساط السياسية والقضائية والصحافية الفرنسية بعد تصريحاته الأخيرة التي حملت تراجعاً عن اتهاماته السابقة للرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي بتلقي مبالغ مالية من الزعيم الليبي معمر القذافي لتمويل حملته الرئاسية العام 2007.

لفهم أسباب الزلزال، لا بد من تناول القضية من بدايتها وشرح طبيعة العلاقة التي جمعت ساركوزي بالقذافي. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2005 وصل ساركوزي بصفته وزيراً للداخلية الفرنسية، إلى ليبيا في زيارة رسمية لمناقشة ملفي الإرهاب والهجرة غير الشرعية. وكان لتقي الدين دور أساس في التحضير لتلك الزيارة نظراً لعلاقاته الواسعة بنظام القذافي، والتي بناها خلال عمله كوسيط في صفقات السلاح. لكن الإنجاز الأبرز لتقي الدين كان إقناعه القذافي بتوطيد العلاقة مع هذا الوزير الطامح إلى خوض السباق الرئاسي بعد عامين.

اللافت أن ساركوزي وخلال تلك الحملة الرئاسية شدد مراراً على عدم مهادنة أي نظام ديكتاتوري، رافضاً بذلك الانصياع لمبدأ الواقعية السياسية. وإثباتاً لحسن نواياه، استحدث منصب وزارة الدولة لحقوق الإنسان وأسندها إلى راما ياد، إلى جانب تعيين برنارد كوشنير، أحد أبرز الوجوه الفرنسية الفاعلة في الحقل الانساني، كوزير للخارجية.

لكن عملياً، انفصلت الأفعال عن الوعود الانتخابية بعدما عقد الرئيس الجديد "صفقة ضمنية" مع القذافي. تجاوب الأخير مع المبادرة الفرنسية وحرر الممرضات البلغاريات من سجونه، ليغادرن ليبيا على متن طائرة فرنسية برفقة زوجة ساركوزي السابقة، سيسيليا. في الواقع، التفت المبادرة الفرنسية على جهود الاتحاد الأوروبي التي كانت قاب قوسين أو أدنى من إطلاق سراحهن، بعدما اختار العقيد الليبي إهداء النصر الدبلوماسي للرئيس الفرنسي كنوع من التسليف.   

في المقابل، لم يتردد ساركوزي في منح القذافي ما يريده: زيارة دولة إلى فرنسا تكرس عودته إلى الساحة الدولية، وهي زيارة شابها كثيرٌ من التوتر، فقد صودف وصوله إلى باريس مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ما أثار سخط راما ياد التي لم تتردد في الإدلاء بتصريح ناري اعتبرت خلاله أن فرنسا ليست "سجادة لمسح الأقدام"، في إشارة إلى مساهمة ساركوزي بتلميع صورة الزعيم الليبي المتهم بشن عمليات إرهابية.

وحين رد القذافي على كلام ياد طالباً من الغرب التأكد من احترامه لحقوق الإنسان في بلدانه قبل إعطاء الدروس للآخرين، توجب على برنارد كوشنير الرد بحزم. كما انحنى ساركوزي نفسه للعاصفة مصرحاً بأنه طلب من ضيفه بذل جهود إضافية في مجال الحريات وحقوق الانسان. وعملاً بمبدأ "الهروب إلى الأمام"، استطرد ساركوزي مذكراً بإبرامه عقوداً وصفقات مع الجانب الليبي، لن يتردد "الآخرون" في الاستيلاء عليها، في إشارة إلى مؤازرته للشركات الفرنسية واهتمامه بتوفير فرص للعمل ودعم النمو الاقتصادي.

بدوره، لم يستسغ الرأي العام الفرنسي تصريحات القذافي ولا مجريات الزيارة، بعدما قرر الأخير تمديد زيارته أربعة أيام إضافية، خارقاً البروتوكول الفرنسي، إلى جانب تفريق الشرطة الفرنسية للتجمعات المعارضة تفادياً لإزعاج العقيد الليبي أثناء مرور موكبه. لكن القذافي لم يقف مكتوف اليدين، بل بادر إلى هجوم مضاد. فخلال مقابلة تلفزيونية مع قناة "France2"، نفى الزعيم الليبي تناول ملف الحريات أثناء محادثاته مع نظيره الفرنسي، ما اعتبر صفعة مدوية لساركوزي.

وهذه ليست العلاقة الأولى التي تجمع فرنسا بنظام تحوم حوله شبهات إرهابية وحقوقية. لكن لم يحدث في تاريخ الجمهورية الخامسة أن ارتبط اسم رئيس فرنسي بديكتاتور على هذا النحو الفج، أي بصورة تعكس استعداد فرنسا للتضحية بمبادئها وقيمها لتحقيق مكاسب مادية من دون تجشم عناء تجميل المشهد. ولا يمكن تفسير "الخنوع الفرنسي" بالصفقات الموقعة خلال الزيارة والبالغة قيمتها 10 مليارات يورو، بل اعتقد كلا الجانبين في الواقع أن بإمكانه استغلال الآخر لصالحه. وبينما احتاج القذافي، الطامح آنذاك لزعامة أفريقيا، إلى توطيد علاقاته بفرنسا صاحبة النفوذ الواسع في القارة، سعى ساركوزي للحصول على دعم ليبي لمشروع "الاتحاد من أجل المتوسط".

في النهاية، تبين أن كلاً من الطرفين يحمل مشروعاً سياسياً يتناقض مع ما يسعى إليه الجانب الآخر. وبعد هذه الزيارة، دخلت العلاقات الفرنسية الليبية مرحلة من الجفاء، كما امتنع القذافي عن تطبيق الاتفاقات الموقعة بعد "إهانته" على الأراضي الفرنسية. وعقب اندلاع الثورة الليبية العام 2011، اعتبر ساركوزي المشهد فرصة ذهبية لتنظيف سجله من تلك العلاقة التي لم يحقق منها أي مكسب. فتزعمت فرنسا التحالف العسكري الرامي إلى إسقاط النظام الليبي، ما اعتبره العقيد خيانة ثانية من ساركوزي.

وفي آذار/مارس 2011، أجرى القذافي مقابلة مع صحيفة "Le Figaro" ذكر خلالها للمرة الأولى مساهمة بلاده بتمويل حملة ساركوزي الرئاسية، كذلك فعل نجله سيف الاسلام خلال مقابلة مع قناة Euronews. إلا أن هذه التصريحات لم تلقى صدى كبيراً حينها، خصوصاً أن "Le Figaro" تناولتها على هامش المقابلة، رافضة اعتبارها "سبقاً صحافياً" لافتقادها للأدلة اللازمة. وتوجب الانتظار عاماً كاملاً لظهور القرائن. ففي آذار/مارس 2012 نشر موقع "Mediapart" الاستقصائي وثيقة ليبية تعود للعام 2006، تتضمن أمراً بتوفير 50 مليون يورو لدعم حملة ساركوزي. وهنا بدأت القضية تسلك المسار القضائي وقيل أن القذافي وعد ساركوزي بتوفير الدعم الذي يحتاجه أثناء لقاء جانبي جمعهما خلال زيارة الأخير إلى ليبيا العام 2005.

مع مرور السنوات أبدى الشهود استعداداً للإدلاء بشهاداتهم أمام الإعلام، وبالتحديد تقي الدين الذي وصف بالشاهد الأبرز في تلك القضية. وفي العام 2016 كانت مقابلته الشهيرة مع موقع "Mediapart" وقناة "France2" حاسمة، حيث شرح فيها كيف نقل بنفسه من ليبيا إلى باريس، وعلى ثلاث دفعات، حقائب احتوت مبالغ نقدية وسلمها لمدير مكتب ساركوزي في وزارة الداخلية. وأكد أنه جرى تسليم الحقيبة الثالثة لساركوزي شخصياً في شقته الكائنة في مبنى الوزارة. وبلغ مجموع هذه المبالغ النقدية، حسب أقواله، خمسة ملايين يورو.

وبطبيعة الحال يلاحظ التفاوت بين مبلغ الـ50 مليون التي نصت عليها الوثيقة الليبية، ومباغ الخمسة ملايين التي ذكرها تقي الدين، ما يطرح أسئلة بشأن نقل بقية المبلغ عبر قنوات أخرى. وهو أمر وارد وأكده أحد الشهود الذين التقتهم "France2" في إطار تحقيقها الاستقصائي، كما أكده تقي الدين نفسه. علماً أن بعض الشهود الأخرين قدموا رواية مختلفة، مثل مفتاح المسوري، المترجم الخاص للقذافي، الذي أشار إلى أنه بعد إصدار هذه الوثيقة، طلب الزعيم الليبي خفض المبلغ إلى 20 مليون دولار أميركي فقط.

وبعيداً من قيمة المبلغ، تحركت الأجهزة الأمنية والقضائية الفرنسية وجرى استدعاء ساركوزي  مرات عديدة للتحقيق، وصدرت بحقه مذكرات توقيف بتُهم: التمويل غير المشروع للحملة الانتخابية، الفساد، استغلال النفوذ، غسل الأموال والتستر على الجرائم. وتردد أن التحقيقات مع ساركوزي تمحورت في جزء كبير منها حول شهادة تقي الدين. وأشار عدد من الصحافيين الذين اطلعوا على محاضر التحقيقات، أن ثلثي الأسئلة التي وجهت للرئيس السابق تطرقت لتصريحات تقي الدين. وما يدعم تلك الفرضية، تسريبات صحافية أشارت إلى اعتماد المحققين على جمع أدلة تشير إلى انفاق حملة ساركوزي مبالغ نقدية فاقت بكثير مبلغ 15938 يورو التي صرحت عنها الحملة وصادق عليها المجلس الدستوري حينها.

من هنا، يمكن فهم أهمية تقي الدين وسبب الضجة التي اثارها بتراجعه عن أقواله. فرجل الأعمال اللبناني-الفرنسي، هرب، قبل مدة، إلى مسقط رأسه بعد توجيه التهم إليه بالضلوع في ما يعرف بقضية كراتشي. وعند التأكد من مكان إقامته الجديد، توجه فريق مشترك من قناة "BFMTV" ومجلة "Paris Match" إلى بيروت للقائه يوم الأربعاء الماضي، من دون أن تكون لديهم أدنى فكرة حول ما يرغب الرجل بتناوله. ولم يكتف تقي الدين بنفي تهمة التمويل الليبي لحملة ساركوزي، ففي مقابلة أخرى اجراها، الجمعة، مع مجلة "L'Obs" أكد أنه لم يتعرض لأي ضغوط للقيام بهذه الانعطافة، بل أن ضغوطاً مارسها عليه قاضي التحقيقات فرضت عليه تبني هذه الرواية. وعند سؤاله عن الملايين الخمسة التي نقلها، أشار إلى أنها كانت في إطار اتفاقات تعاون بين أجهزة الأمن الفرنسية والليبية.

من جهته، تلقف ساركوزي استدارة تقي الدين باهتمام بالغ، واصفاً ما جرى بانجلاء الحقيقة. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الحملة الإعلامية التي بدأها ببيان في مواقع التواصل الاجتماعي واستتبعها بمقابلة على قناة "BFMTV"، الجمعة.

وإلى الآن، لا يمكن الجزم ببراءة ساركوزي. فالمدعي العام سارع إلى إصدار بيان شدد فيه على أن الأدلة التي بحوزتهم لا تعتمد على تصريحات شخص واحد. من جهتها طرحت السلطة الرابعة الفرنسية تساؤلات جوهرية: هل يمكن اختزال انعطافة تقي الدين بصحوة الضمير؟ أو أنه عقد صفقة بعد الحجز على ممتلكاته على خلفية قضية كراتشي؟ أم لاحظ ضعف الأدلة ضد ساركوزي فأراد النفاذ بريشه؟ ولماذا يتوجب تصديق رواية تقي الدين الجديدة وتكذيب الرواية السابقة؟ خصوصاً وأنه اشتهر بلقب "السيد ZigZag" لكثرة تغيير أقواله.

وما يعزز الشبهات من وجود صفقة ما، أن مجلة "Paris Match" كانت أول من تبلغ بوجود تقي الدين في بيروت، وهي مجلة تنتمي إلى مجموعة "Lagardère" التي يشغل ساركوزي عضوية مجلس إدارتها كما تربطه علاقة وثيقة برئيسها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها