الثلاثاء 2020/10/27

آخر تحديث: 15:28 (بيروت)

عندما قال رسام "شارلي ايبدو" لمُسلم:تطبيق المساواة ليس لصالحكم

الثلاثاء 2020/10/27
عندما قال رسام "شارلي ايبدو" لمُسلم:تطبيق المساواة ليس لصالحكم
increase حجم الخط decrease
قبل نحو ثمانية أعوام وخلال مناظرة تلفزيونية جمعت أحد رسامي "شارلي ايبدو" ورئيس إحدى جمعيات الإسلامية الفرنسية، طالب الأخير بتناول المقدسات الإسلامية، في الرسوم الكاريكاتورية الساخرة، على قدم المساواة مع الديانات الأخرى. فكان رد الطرف الآخر عليه: "ليكن في معلومك أن تطبيق المساواة لن يصب في صالحكم".

ما قصده الرسام أن "شارلي ايبدو" ليس عدائية تجاه للإسلام والمسلمين بل، على العكس، تتناولهم على نحو مخفف مقارنة بباقي الديانات.

صحيفة "لوموند" نشرت، قبل خمسة أعوام، رسماً بيانياً يؤكد وبالأرقام، الحجة أعلاه: بين عامي 2005 (عام إعادة نشر شارلي ايبدو للرسوم الدنماركية الشهيرة) و2015 (عام الاعتداء الإرهابي على الصحيفة) لم تتناول "شارلي ايبدو"، على صفحتها الأولى، مواضيع ذات صلة بالإسلام إلا في سبعة أعداد من أصل 523 عدداً.

الدعوات الإلكترونية لمقاطعة المنتجات الفرنسية حق طبيعي لأصحابها وأسلوب حضاري وسلمي في التعبير عن رفض الرسوم الكاريكاتورية لا سيما إذا ما قورن بالاعتداء الارهابي الذي ذهب ضحيته أستاذ التاريخ صاموئيل باتي.

في المقابل، من الواجب التحلّي بشيء من العقلانية بدل الإنجرار خلف العواطف، والمقصود في هذا الصدد ردود الأفعال العربية التي ذهبت إلى حدّ شيطنة فرنسا، وكأن أساس المشكلة هي الرسوم وليس العملية الإرهابية. ردود أفعال تنم عن جهل تام بديناميكية المجتمع الفرنسي. فنشر الصحف الفرنسية لرسوم كاريكاتورية "مسيئة" للمقدسات الدينية، لا يضمر أي سوء نية.

لنقارب المسألة من زاوية معاكسة: ماذا لو نُشِر رسم كاريكاتوري يستهزئ بالأبقار، هل سيثير حفيظة المسلمين؟ بالتأكيد لا، سيمر مرور الكرام ومن الجائز تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي إذا ما كان طريفاً. لكن ماذا عن الهندوس؟ هل سيتفاعلون مع الرسم المفترض بالطريقة نفسها؟ هذا جوهر القضية: نحن نعيش في عالم لا نتقاسم فيه المعتقدات ذاتها، ولكل فئة مفهومها الخاص والمختلف للمقدسات. من جهة أخرى، ثقافة الكاريكاتور متجذرة في المجتمع والتاريخ الفرنسي منذ القرون الوسطى ولعبت دوراً في تعبئة الفرنسيين ضد النظام الملكي خلال عصر الأنوار أي قبل تحول المسلمين إلى مكون من مكونات النسيج الاجتماعي الفرنسي.

ومع تأسيس صحيفة Le Canard Enchainé ومن بعدها L’Assiette au Beurre  وHara Kiri وCharlie Hebdo بات مفهوم "السخرية من كل شيء" سلاحاً مستخدماً على كل الجبهات خصوصاً وأن المبالغة تشكل عماد الرسوم الكاريكاتورية. 
لم تشهد فرنسا جدلاً حول حرية التعرّض للمقدسات الدينية إلا في العام 2005 يوم قررت الصحف الفرنسية التضامن مع صحيفة Jyllands-Posten الدنماركية ونشر الرسوم الكاريكاتورية "المسيئة" للنبي محمد. 

في هذا السياق، كانت لصحيفة "شارلي ايبدو" لمستها الخاصة بعدما جسدت النبي محمد برسم متلفظاً: "من الصعب أن تكون محبوباً من الحمقى". منذ ذلك الحين باتت أعداد شارلي ايبدو محط متابعة إعلامية وساهمت هذه الصحيفة في عملية تحطيم كل التابوهات السياسية والدينية، حتى تحولت في السنوات الأخيرة إلى العنوان الأبرز للصحافة الساخرة.

لم تستثنِ شارلي ايبدو أياً من المقدسات الدينية: المسيحية واليهودية قبل الإسلامية. لا بل يمكن القول أنها في بعض المحطات انحازت الى مقولة "هؤلاء لا يمثلون الإسلام الحقيقي"، كالرسم الشهير الذي يصور عملية ذبح وفيه تقول الضحية "أيها الأحمق، أنا النبي" ليرد الجلاد "أصمت أيها المرتد".


فلماذا يُطلب من المسيحيين واليهود وأنصار الأحزاب السياسية ومختلف الشرائح الاجتماعية تقبل السخرية والتهكم الكاريكاتوري بالتوازي مع استثناء المسلمين من قواعد هذه اللعبة الاعلامية؟ فاذا مُنِعت الصحف من نشر رسوم مماثلة أو اختارت فرض رقابة ذاتية، من يردع أتباع الديانات الأخرى عن الضغط للحصول على معاملة مماثلة؟ وطالما أن باب الرقابة فُتِحَ على مصراعيه، من يضمن ألا تحذو أحزاب سياسية وشرائح الاجتماعية (كالمثليين والمهاجرين) حذو الأديان فتقدّس نفسها؟ ما يؤدي في نهاية المطاف إلى إفراغ حرية التعبير من مضمونها.

من الضروري كذلك استيعاب أسباب تمسك فرنسا بحق السخرية هذا والذي لا يجوز تصنيفه في خانة التحدي لمشاعر المسلمين. تمسّك تجلّى في التصريحات الرسمية ومبادرة عدد من المجالس البلدية إلى عرض هذه الرسوم الكاريكاتورية على جدران المباني.

في الواقع، استهدفت الجريمة الأخيرة رمزاً بالغ الأهمية ألا وهو النظام التعليمي. فالمدرسة تحتلّ مكانة متقدمة داخل فرنسا العلمانية التي تعتبر أن خلفية أي فرد وأصوله كما معتقداته (الدينية، الإيديولوجية) أو ميوله الجنسية، لا تنفي وجود قيم مشتركة تسمح لكل من يقطن على الأراضي الفرنسية العيش بسلام وتآخي مع أقرانه. 

في هذا الإطار، نجد تعويلاً كبيراً على دور المدرسة للوصول إلى هذه التنشئة المدنية وتهيئة أجيال للإنخراط في عقد اجتماعي تسمو فيه المواطنة على أي اعتبار عقائدي. بالتالي، استهداف أحد الأساتذة سيفضي حكماً إلى حالة من الرعب واعتبارها ضرباً لأحد الأسس التي يقوم عليها تماسك المجتمع الفرنسي، المتعدد الهويات.

من جانب آخر، انطوت جريمة الذبح على أبعاد سياسية تخطت حدود الحق في السخرية من عدمها. فمنذ سنوات وفرنسا تعيش جدلاً مفتوحاً حول مكانة الإسلام داخل المجتمع الفرنسي ومدى أهلية المسلمين للاندماج وتقبل الآخر المختلف، ليأتي القاتل الشيشاني ويصب الزيت على النار.

بالإضافة إلى ما سبق ذكره، هناك أمر آخر يتوجّب إدراكه: مثل هذه الأعمال الارهابية من شأنها استعداء المجتمع الفرنسي برمته، ما يضعف موقف الجهات الفرنسية التي تحارب الخلط بين الإسلام والإرهاب. بمعنى آخر، من يعتبر الرسوم هي المشكلة وعلى هذا الأساس يتخذ موقفاً مهادناً حيال الجرائم الإرهابية، عليه مراجعة حساباته لا سيما إذا كان يعتبر نفسه في معركة لإبراز "الوجه الحقيقي" للإسلام المعتدل غير الظلامي.

ليس الهدف مما ورد أعلاه شيطنة طرف لصالح آخر. ولا داعي للتذكير بوجود مجموعات من الفرنسيين تملك مقاربات خاطئة عن الإسلام وشعائره وتصرّ على تنميط المسلمين (من فرنسيين وأجانب) وتسعى حتى إلى استفزازهم لحسابات سياسية وانتخابية. إلى جانب سياسات حكومية أفضت، بعد عقود من التراكمات، إلى دفع أفراد للتشبث بهويتهم الدينية.

بالتأكيد شعر المسلمون في العالم بإهانة، وفقاً لمعتقداتهم الخاصة، ومن الخطأ الاستخفاف أو إنكار هذه المشاعر. بالمقابل من الضروري أن يدرك من يعتبر نفسه مستهدفاً بمعتقداته الدينية، أن نوايا الطرف الآخر بريئة، فلا وجود لمؤامرة معدة سلفا خصوصاً وأن السلطة القضائية الفرنسية تتمتع باستقلالية وقوانينها تقف على مسافة واحدة من الجميع، مسألة يمكن التأكد منها بمراجعة أحكام قضائية سابقة أنصفت المسلمين. ففرنسا التي تبيح السخرية والتهكم على جميع الأديان، لم توصد يوما الباب في وجه المسلمين من أبنائها، ليسطع نجمهم في شتى المجالات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها