الأربعاء 2020/01/15

آخر تحديث: 19:36 (بيروت)

صُوَر أحداث الحمرا.. مدبّرة وغير اعتباطية

الأربعاء 2020/01/15
صُوَر أحداث الحمرا.. مدبّرة وغير اعتباطية
increase حجم الخط decrease
في العام 2010 قدّم كريستوفر نولان في فيلمه Inception، فكرة زرع الأفكار في اللاوعي، حيث قام بطل الفيلم ليوناردو دي كابريو، الذي كان يلعب دور جاسوس متخصص، باستخلاص معلومات تجارية قيّمة من العقل الباطني للأشخاص المستهدفين من طريق التسلل إلى أحلامهم وزرع الفكرة التي يريدها داخل عقولهم لتبدو كأنها نابعة من الشخص نفسه ونتاج قناعاته.


خيال نولان تجلّى واقعاً وتجسّد في أحداث مساء الثلاثاء في شارع الحمرا. وكل من تستهويه نظرية المؤامرة، سيرى في مسرح الأحداث بيئة مثالية وخصبة لها ترجمة محسوسة يمكن لمسها والوصول إليها بقليل من الجهد والتحليل المنطقي، المنطلق من كون المتهم بالوقوف وراء حبكة التآمر، جهات لها باع طويل في تشكيل ما يناسبها من الوعي وحرف الحقائق وقلبها لتتناسب مع أهدافها بتسيير الجماهير لما فيه من مصلحة لها.

فالعنف والغضب ضدّ المصارف جرى التحريض عليه وبرمجته انطلاقاً من مبدأ اختراق الوعي والعبث بالأفكار وتحديد وجهة وأسلوب تنفيس الغضب بدهاء وذكاء، ليجعل من الشغب الذي حصل، يظهر وكأنه من فعل الثوار وأفكارهم، ويحشد حوله تأييداً والتفافاً كونه لامس وجع الناس وغضبهم تجاه المصارف وسياساتها التعسفية، ما أعطى انطباعاً بأن العنف الثوري سيكون سمة المرحلة المقبلة، التي ستكون المصارف على رأس أهدافها، إن لم تكن هدفها الوحيد.

المشهد الذي وثّقت أحداثه صور كثيرة التقطها مصورون صحافيون وناشطون على الأرض، عكس النيّة الواضحة لنقل الثورة إلى مستوى آخر، إذ بدا لافتاً في أحداث أمس أنه وللمرة الأولى يتبنّى بعض الثوار أحداث العنف، بعدما بادرت مجموعة محسوبة عليهم بالمجاهرة أنها هي من تسببت بأعمال التكسير والتخريب التي تعرضت إليها المصارف في شارع الحمرا، وهو ما لقي استحساناً واسعاً من مؤيدي الثورة الذين اعتبروا أن الهجوم على المصارف هو جزاء عادل في مقابل أسلوب تعاملها وإجراءاتها المجحفة بحق المودعين، الذين انتهكت حقوقهم وكراماتهم وتم السطو على مدخراتهم وحرمانهم من الوصول إليها، بموازاة التقنين في دفع مستحقاتهم ورواتبهم والتمنّع عن الدفع بالدولار لصغار المودعين، بينما يتم الحديث عن تحويلات بمئات الملايين، التي تمت لصالح السياسيين والمنتفذين وسلكت طريقها إلى الخارج.

ورغم أنها بدت في معظمها مدبّرة وبعيدة من العفوية والاعتباطية، لكن الصور المنتشرة في مواقع التواصل حول أحداث أمس، استطاعت أن تلاقي تفاعلاً كبيراً بين مؤيدي الثورة وداعميها، وأن تدغدغ جموحهم وحماستهم الثورية، بل وتوحي إليهم أنّه لم يعد من مكان للسلمية في ثورتهم، في حين أنّ الخدعة تكمن في استغلال أحزاب السلطة، على رأسهم "حزب الله" و"حركة أمل" لحساسية الوضع ودقتّه، ودفع مناصريهم لاختراق مشهد التعبير عن الألم والمعاناة والظلم واللعب على الوتر، تمهيداً لإسقاط الثورة وتشويه صورتها.

ولا شكّ أن أكثر ما يضرّ بالثورة إسقاطها أدبياً وأخلاقياً، كون العنف يشكّل حداً فاصلاً تقف عنده غالبية داعمي الثورة، الذين طالما شددوا على انتهاج التعبير السلمي والحضاري، باعتباره وجه الثورة التي سحرت العالم بفرادتها، الأمر الذي سيؤدي في المحصلة إلى انشقاق عمودي من شأنه إضعاف الثورة وإشغال مؤييدها بالخلاف حول سبل التعبير عنها، في حين أن القوى الأمنية ستبدو محرجة ومتقاعسة في حال عدم تصديها للمتظاهرين، ما يحقق أكثر من هدف ونقطة لصالح السلطة، إذ إن الخروج عن سلمية التظاهر كان مقتل الثورة السورية التي كان النظام يتلهف إلى جنوحها للعنف، تبريراً لسحقها وإنهائها.

ورغم اختلاف الفوارق بين ما حصل في سوريا وما يحصل في لبنان، فإنّ الثابت والرابط يظهر في تخوين الثورة وهدف إسقاطها، وإن تنوعت الأساليب.

وبدا لافتاً مساء أمس تركيز تلفزيونات أحزاب السلطة، "أو تي في" و"إن بي إن" و"المنار"، على عنف الثورة وضرب صورتها السلمية، والذي يحمل في طياته تحريضاً وتشجيعاً خفياً لانتهاجه وتفشيه بين الثوار، وهو ما تجلّى في الصحوة المفاجئة والحماسة التي ألمّت بهذه القنوات بعد غيبوبتها وانقطاعها عن تغطية كل أحداث التظاهر طوال ساعات يوم الثلاثاء، لتظهر اهتماماً بتغطية أحداث الشغب وتوزيع مراسليها على مختلف النقاط في شارع الحمرا، ممن كرروا في رسائلهم الحديث عن ردود الأفعال تجاه إجراءات المصارف وسياسة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في محاولة لحرف الأنظار عن فساد السلطات والطبقة السياسية، وتكريس فكرة أن المصارف وحدها هي العدو الأول للشعب وأصل البلاء، وليست شريكة فيه مع أطراف أخرى.

استهداف المصارف بهذه الطريقة، والذي أتى متزامناً مع أخبار تعثّر تشكيل الحكومة، يبعث برسالة قوية للرئيس المكلف حسان دياب، تهدف إما إلى تطويعه أو إخضاعه لقبول الاسماء المفروضة عليه، أو إحراجه لإخراجه نهائياً من اللعبة ودفعه للاعتذار، ما يتيح إعادة تعويم وتفعيل حكومة تصريف الأعمال التي يهيمن عليها "حزب الله" وحلفاؤه، وإعادة تمهيد الطريق أمام سعد الحريري باعتباره الخيار المفضّل والمجرب في لعبة المحاصصة والحفاظ على مصالح الطغمة الجائمة فوق رؤوسنا منذ عقد ونيف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها