الجمعة 2020/01/10

آخر تحديث: 19:03 (بيروت)

كارلوس غصن كشخصية كرتونية يابانية

الجمعة 2020/01/10
كارلوس غصن كشخصية كرتونية يابانية
انتهج كارلوس غصن استراتيجية إعلامية مبدأها "الصمت".. وعُرف في الاعلام الفرنسي بـ"فضيحة جواسيس رينو المزيفين"
increase حجم الخط decrease
اهتمام الوسط الإعلامي بكارلوس غصن لم يبدأ بعد هروبه من اليابان ولا حتى بعد توقيفه قبل نحو عام. فمسيرته المهنية جعلت منه مادة إعلامية دسمة. 
إلى جانب إنجازاته واجه الرجل العديد من المطبات، نجح بتخطيها بوسائل عديدة، أبرزها ماكينته الإعلامية التي جعلته محاطاً بهالة غير مسبوقة في عالم الأعمال. فسقوط غصن المدوي إعلامياً، مردّه سقوطه من علو شاهق. 

وإذا كان بلد الأزر يفتخر به كونه تجسيداً للصورة النمطية للمغترب اللبناني، فإن دولاً أخرى اعتبرت أنها تملك "أسهماً" في كارلوس غصن. صحيحٌ أن تعدد هوياته (لبناني الأصل، برازيلي المولد، فرنسي التجنيس) ساهم في تعزيز صورته الإعلامية كمواطن عالمي، لكن لقب مواطن العالم ما كان ليلتصق به لولا حياته المهنية التي توجها عام 2016 بتوليه رئاسة تحالف رينو - نيسان - ميتسوبيشي. 

في الواقع، لم يسبق أن تمكن شخص من التربع على رأس ثلاث شركات دفعة واحدة، وهي مصنفة جميعها على لائحة أكبر 500 شركة متعددة الجنسيات، حتى أطلقت عليه الصحافة لقب "مدير المدراء". 

وإذا كان لبنان يعتبر غصن ابنه الطبيعي، ترى فرنسا أن "مدير المدراء" واجهة ممتازة لها، ليس لأنه يحمل جنسيتها فحسب، بل لخروجه من رحم شركاتها: ميشلان ثم رينو. ففرنسا تعتبر نشاط شركاتها المتعددة الجنسيات خجولاً نوعاً ما، وعليه يشكل كارلوس غصن تعويضاً دعائياً عن هذا القصور. وعلى هذا المنوال سارت البرازيل، لا سيما حين تم اختياره واحداً من حملة الشعلة الأولمبية على هامش أولمبياد ريو دي جانيرو. 

لكن علاقة اليابان بغصن تختلف عما سبق ذكره آنفاً. فـ"بلاد الشمس المشرقة" ترى أنها مدينة له بعدما أنقذ واحدة من أهم شركاتها، نيسان، من الافلاس حتى خصصت إحدى مجلات المانغا عددا خاصا تناول حياة الرجل. والمانغا عبارة عن قصص كرتونية على شكل رسومات ومجلّات دورية تحظى بشعبية كبيرة لدى اليابانيين. 

اختيار غصن كإحدى شخصيات المانغا لم يكن عبثياً، فنجاحه في إنقاذ نيسان تم وفق خريطة طريق تتنافى مع ثقافة سوق العمل الياباني (صرف آلاف العمال، إغلاق مصانع...). يشير فريق عمل غصن في اليابان الى أنهم كانوا يدركون الحاجة للسير بتلك الخريطة لكن أحداً لم يمتلك الجرأة المطلوبة لذلك، لتتبين الحاجة إلى أجنبي بعيد عن الثقافة اليابانية. في الواقع، سياسة غصن هذه خلفت حقداً عليه، فكان لا بد من دعاية إعلامية مضادة، دعاية كانت المانغا إحدى أدواتها ليتحول بذلك إلى أيقونة داخل اليابان.

على نحو أوسع انتهج كارلوس غصن استراتيجية إعلامية مبدأها "الصمت". لم يعتمد على المقابلات الصحافية للتسويق لنفسه، بل كانت إنجازاته خير دعاية له لا سيما وأنه اعتاد وضع أهداف، مرقمة، لثلاث سنوات ساعيا لتحقيقها أيا تكن المعوقات، بمعنى آخر: راهن دوما على مصداقيته.   

لكن مسيرة غصن لم تكن دوماً مفروشة بالورود، ففي أكثر من مناسبة واجه أزمات كادت تطيحه. 

أشهرها ما عرف في الإعلام الفرنسي بـ"فضيحة جواسيس رينو المزيفين" (عربياً، اصطلح على تسميتها بـ"قضية التجسس الصناعي على رينو"). ففي العام 2011 اتُهم ثلاثة من كبار الموظفين ببيع معلومات سرية لشركات منافسة (تردد أنها صينية)، وهي معلومات تتعلق ببرنامج انتاج سيارات كهربائية. لم تكتف رينو بصرف الموظفين الثلاثة قبل انتهاء التحقيقات بل خرج غصن شخصيا على النشرة المسائية واكد امتلاك أدلة دامغة على تورطهم، وحين تبينت براءتهم تمت التضحية بالرجل الثاني في الشركة. فضيحة كشفت الأسلوب الاداري الملتوي الذي يعتمده غصن. 

آنذاك أرادت أطراف عدية، وعلى رأسهم نيكولا ساركوزي، إطاحة غصن، لكن الأخير تمكن من الحفاظ على منصبه. والفضل في ذلك للدعاية التي سوّقت له، إذ أشاع أن استمرارية رينو مرهونة بتحالفها مع نيسان ولا أحد سواه يستطيع رعاية التحالف المذكور. 

في الواقع لم يكن ساركوزي الوحيد الذي اصطدم بكارلوس غصن. وزير الصناعة السابق كريستيان استروزي استاء منه بعدما وفر له دعم الدولة الفرنسية، كونها أحد المساهمين في رينو، لتطبيق سياسته التقشفية الحادة عام 2009. في المقابل نكث غصن بوعده بخلق فرص عمل داخل فرنسا، فأنشأ مصانعه الجديدة خارج البلاد بحثا عن يد عاملة رخيصة، ما وضع الدولة الفرنسية في موقف محرج إزاء الرأي العام.  

من جانب آخر كانت حياة غصن الشخصية محط جدل اعلامي دائم. فدخله السنوي بلغ 15 مليون يورو، رقم اعتبره غصن طبيعيا بالنظر إلى الأرباح التي حققتها الشركة في عهده، لا بل رأى فيه اجحافاً إذا ما قورن بما يتقاضاه أقرانه في الولايات المتحدة. إلا أن الشارع الفرنسي لم يهضم هذه المبالغ لا سيما مع الصعوبات الحياتية التي لا زال يعاني منها الفرنسيون ما جعل تلك المداخيل المتراكمة عرضة للمساءلة الإعلامية الدائمة. 

حفل ميلاده الستين كما حفل زواجه الثاني أثارا بدورهما لغطا كبيرا بعدما أقيما في قصر فرساي بأجواء ملكية بكل ما للكلمة من معنى. ولا ننسى بالطبع منازله التي تملكها أو أقام بها حول العالم (كمنزله في منطقة الأشرفية بلبنان) واستثماراته الخاصة وتقاضي أفراد من عائلته رواتب من نيسان. 

تأجج هذا الجدل عندما أوقف غصن في اليابان: اتهم بالتهرب الضريبي، إلى جانب قضية تتعلق بتسديد نيسان لفواتير زفافه وشققه السكنية كما تكبدت الشركة اليابانية ما خسره غصن من استثمارات عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008. وفيما يخص أفراد عائلته، تبين أن رواتبهم لم تقابلها خدمات فعلية.  

تقول كريستسن كاردلان، مديرة تحرير مجلة L'Usine Nouvelle، أن الحال وصل بغصن إلى الانفصال عن الواقع حين اعتبر أن أصول الشركات التي يديرها هي ممتلكات شخصية له وكأنه هو مؤسسها. لا ينكر أحد جهود غصن في بلورة التحالفات المذكورة آنفاً، لكنه في نهاية الأمر لا زال موظفاً مهما بلغت مكانته وفقا لكاردلان. كلام يتقاطع مع ما صدر عن وزير الاقتصاد الفرنسي السابق آرنو مونتبورغ: لولا جنون العظمة الذي تملك كارلوس غصن، لكان تحالف رينو - نيسان - ميتسوبيشي في صدارة السوق العالمية من دون منازع.   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها