الثلاثاء 2019/07/09

آخر تحديث: 21:06 (بيروت)

الولايات المتحدة: رئيس مغتصِب.. ومجتمع في أزمة

الثلاثاء 2019/07/09
increase حجم الخط decrease
في حياة كل امرأة، لائحة من رجال "قبيحين" اخترقوا أمانها بأيادٍ معتدية أو أفواه مرولة. تبقى هذه اللوائح غالباً حبيسة ذاكرة المرأة وصدمتها. لكن، ومنذ بداية حراك #MeToo، أضحت هذه التجارب سجلات علنية، تفضح فيها الأسماء، الواحد تلو الآخر. وتضمنت هذه السجلات رجالاً ذوي شهرة وثراء ونفوذ، أبرزهم الرئيس الأميركي الحالي.

يظهر إسم دونالد ترامب ضمن لائحة "رجال قبيحون" مروا في حياة الصحافية والكاتبة الأميركية إي جاين كارول، التي نشرت مؤخراً في مجلة New Yorker. بالطبع، القبح هنا لا شأن له بالمظهر الخارجي، وإنما بفعل الإنتهاك الذي يختزل الرجل المعتدي في بُعده الغريزي الأكثر بدائية. تتضمن لائحة المرأة السبعينية، 21 رجلاً، كان ترامب آخرهم. وتفتتح مقالها بالقول: "أوّل هؤلاء الصبيان الأثرياء أجبرني على خلع سروالي التحتي، لا أدري أين أضحى اليوم. أما آخرهم، فقد أصبح رئيساً للولايات المتحدة". 

إشارة كارول إلى ثراء المعتدين عليها له رمزيته. ففي مجتمع يولي للمال أهمية قصوى، يستطيع الذكور الأغنياء الإفلات بأي شيء، لا سيّما العدوان الموجه إلى نساء أقلّ ثراء ونفوذاً. وهذا بالضبط ما يثبته نموذج دونالد ترامب، رئيس الدولة الأقوى في العالم، الذي تسلّح برصيده المصرفي في محاربة وتبديد مزاعم التحرش والإغتصاب التي وجهتها إليه نساء كثيرات أصبح عددهن اليوم 22 امرأة.

تصف كارول حادثة الإغتصاب بالتفاصيل التي لا تزال حاضرة في ذهنها بعد عقود على وقوعها. وتشير الكاتبة إلى أنها إلتقت ترامب صدفة في مركز تجاري، خلال منتصف التسعينات، فتذرع الأخير بكونها مقدّمة نصائح ليطلب منها مساعدة في إختيار هدية لإمرأة. بنيّةٍ حسنة، وبعض الحماقة التي أقرت بها كارول في نصها، وافقت الكاتبة على مساعدته في شراء ملابس داخلية، وعلى مقاسها أيضاً. رافقها إلى غرفة القياس، دفعها إلى الزاوية، وإغتصبها في أقل من ثلاث دقائق. 

هذا الزعم الذي يفترض به هزّ سمعة الرئيس وصورته، لم يلقَ الكثير من الاهتمام من قبل الإعلام الذي ملّ القصة نفسها. أما دفاع ترامب فجاء مماثلاً لردوده السابقة القاضية بتكذيب كلّ إتهام يصدر عن إمرأة بالقول: "هذه القصة لا يمكن تصديقها، فالمرأة لا تعجبني أصلاً". لا يخلو دفاع ترامب من إهانة وفوقية تنضح بهما شخصيته التي تتجاوز كل حدود يفرضها التعامل الإنساني والإجتماعي. 

حين زعمت صحافية أخرى، هي ناتاشا ستوينوف، إعتداء ترامب عليها في العام 2005، كان ردّه "أنظروا إليها"، بما معناه أنها ليست جميلة بما يكفي لتكون موضوع تحرّش. أما عن جيسيكا ليدز، التي إتهمته بتلمّسها على متن طائرة، فقال الرئيس: "صدّقوني، ليست خياري الأوّل". ويقع الإعلام غالباً في فخّ تحريف مسار تغطيته لهذه الحوادث بعيداً من تجربة المرأة المعنية، ليركّز في المقابل على تصريحات ترامب بخصوصها، فيتمّ إفراغ القضية من جديتها وتراجيديتها. 

أما مناصرو ترامب، فهم يسعدون في كلّ مرة يسخر فيها الرئيس من النساء، وهي سخرية تطاول غالباً مظهرهن الخارجي أو إفتقارهن، بنظره، إلى الأنوثة. فهو حيناً يشبّه وجه امرأة بوجه كلب، ويصف أخرى بـ"خنزير سمين"، وسط تهليل جمهوره. وحين تقدّمت الأستاذة الجامعية، كريستين فورد، بدعوى تحرّش ضدّ كافانو، أحد قضاة المحكمة العليا الذي تمّ ترشيحه من قبل ترامب، صاح هذا الجمهور نفسه "أسجنوها". 

يحتفي هذا الجمهور بثراء ترامب وسلطته الكفيلين بردّ أي تهمة أو دعوى قضائية عنه. تعي كارول تماماً تبعات إتهامها، ولا تراودها أوهام بشأن تضامن هؤلاء الأنصار معها أو رجوعهم عن دعمهم للرئيس المغتصب. وتقول في نصها: "لا يمكنني أن أتخيّل نشوة هؤلاء الفقراء المساكين حين يسمعون أن قضيبهم المفضّل إغتصب امرأة طاعنة في السنّ في أحد المتاجر الرفيعة". 

إنها الوحشية ذاتها التي توثّق علاقة الذكور المراهقين حين يجتمعون على إضطهادهم للفتيات. وتماماً كالمراهقين، يوحدّ مناصرو ترامب من الذكور البيض المحافظين، عنفهم ضدّ كلّ آخر يكرهونه ويخشونه، من نساء ومهاجرين ومثليين ونسويين. يستمدّون اللذة من قصص العنف والوحشية التي تقترن بإسم ترامب، ويشنّون عبره حربهم ضدّ كل من لا يقاسمهم مبادئهم وأخلاقياتهم. ولأن حسهم بأحقيتهم في الإستئثار بالهوية الأميركية وبإمتلاك أجساد النساء، لا يتحقّق في الواقع، ذلك أن الهوية الذكرية البيضاء ليست كافية ما دامت غير مدعومة بنفوذ طبقي، فإنهم يعيشون، عبر وحشية ترامب، كل فانتازماتهم السياسية والعنفية والجنسية. 

المجتمع الأميركي في أزمة. وهي أزمة تتجاوز الواقع السياسي، وتتخذ مظاهر إجتماعية وثقافية خطيرة. هذا ما توصّل إليه الإعلام الأميركي أخيراً عبر مراقبته للسقوط الاجتماعي والإنساني المتواصل. 

في مقال نشرته "نيويورك تايمز" تحت عنوان "هل ترامب مغتصب؟"، يقول الكاتب شارلز بلو: "يبدو أن البلد، أو أقساماً كبيرة منه، أذعن إلى نوع محدّد من الشرّ الخبيث وحتى اللعوب"، ليستنتج أن المجتمع الأميركي ينزلق نحو "كارثة". إن تسامح هذا المجتمع مع العنف الجنسي من جهة هو "مرض تمكّن من أميركا"، وفق وصف بلو. 

هي ليست المرة الأولى التي يستغلّ فيها رجل سياسي نافذ وغني، سلطته، لينتهك وجود امرأة، لكن غالباً ما كان هؤلاء الرجال يفعلون المستحيل للتستّر على الأمر. فخروجه إلى العلن قد يُستتبع بعواقب وخيمة. تمرّ اليوم هذه القصص بعادية مفرطة، من دون أن يكون لها أثر يذكر في حياة الجاني، وكأن أميركا -بلد الحقوق والحريات والتقدّم- قد سافرت بالزمن إلى القرون الوسطى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها