الخميس 2019/06/06

آخر تحديث: 19:38 (بيروت)

"حشّاشون" حتى تَثبُت براءتهم

الخميس 2019/06/06
"حشّاشون" حتى تَثبُت براءتهم
increase حجم الخط decrease
الهويّة التي لا يَكونُ لكَ يَدٌ في صناعتها، هي قوقعة! لكنها ليست أيَّ قوقعة. إنها تلك التي يحتمي فيها الحلزون إذا حاول الغُرباء أن يرَشّوا عليه مِلحَ اختلافهم لإذابته.
بين ما أريدُ أن أكون عليه وما كنتُه بحكم الصدفة لم يُحسَمُ الصراع نهائياً، لكن الأهمّ هو رَدمُ جزءٍ كبير من الفجوة بين التهكم والاعتزاز، والمزاح والجدّ.

"أحفاد محمد، عيسى، علي، الحسين، عمر، معاوية، صلاح الدين..إلخ" تصلُحُ كلها لتكون إرثاً لكَ تُقيم لهُ وزناً أو لا تُقِيم؛ تفخَرُ أو تزدري أو تجعلهُ "صفةً مُتنحِّية". أنت حُرّ. إلى حينِ يُقرّرُ أحدُهم أن يصنعَ من هذا الإرث أو قشوره بطاقةً تعريفية؛ هويّةً خاصّة بك على شكل قوقعة، تَبتهِجُ عندما يتغزّل الآخرون بلمعانها فيَلبَسون مثلكَ حِجاباً أو قلنسوة، وتستشيطُ غضَباً حينما يعتبرونها علامةً على تخلّفك!

- ليش سمّوكم انتو الاسماعيليين بالزمانات "حشّاشين"؟

- مع اني ما بردّ ع سؤال بيستخدم صاحبو كلمة "انتو".. بس رح ردّ عليك... اختار اللي بدّك ياه من الأجوبة. المهم ما تحاول تلبسني قوقعة... التاريخ سلّة فواكه.. خود منو اللي بيناسبك. انت هلق شو بدك بالزبط؟ تطعميني تفاحة أو ترميني بخوخ معفّن؟

كانت المجزرة التي وقعت في نيوزيلندا مناسبةً لإعادة فتح "بسطة" الهويات سواء للتعاطف أو لشدّ العصب أو الاستثمار أو الاستفسار. لذا فلَمْ أستغرب سؤال بلال، ولم أمانع الانخراط - بطريقتي - فيما بدا لي حفل جنون هوياتي!

استشعرَ صديقي الذي أُقيمُ معه في أثينا ثِقلَ ظلّه، خصوصاً أن ظرفنا لا يحتمل ترف نقاشات كهذه. لكن هل لي أن ألومه وما يحيط بنا وَليدُ منطقٍ ثابت لتعاطي العالم معنا، وترسيخ أشكال تعاطينا مع بعضنا البعض؟! نحن نعيش نِتاج عَمَل دولٍ ومؤسسات وشخصيات كالرئيسة النيوزيلندية التي أثارت بمواقفها شجون بلال.

إنه التعاطف العابر للحدود والأدمغة باسم الهويات، والذي يؤسس اليوم نحو المزيد من المظالم التاريخية، ويَستَكمِل وَضْعِ القواقع لِمَن لم يضَعْها حتى الآن من أبناء الشرق البائس. بل إنه يرسمُ خطوط التماس الانفعالي بيننا تمهيداً للسيناريو المتكرر؛ تنافسٌ بين الجماعات الإثنية على تحصيل "الاعتراف" و"الاعتذار"، ومحاولة التربّح من هوية وقضيّة، أو تهيئة الرؤوس الحامية للاشتعال بفعل غريزة العَدَد وتقديس الرموز.

لِحُسنِ الحظ، وجدتُ نفسي أمام بلال مُعفىً من تبديد الحكايات الخيالية حول تلك الفرقة التي تأسست في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي وتمّ تسميتها لاحقاً بـ"الحشاشين" ضمن ظروف من الاحتراب السياسي والعسكري والدّعَوي.

سَيُسعِدُكَ ولا شك أن تَعثُر على أشخاصٍ لا يُفتّشون في التاريخ عن خرافات بهدف سَدِّ جوعٍ طائفيٍّ للتفوق الأخلاقي يقوم على تشويه الغير أو مَسخه وفق منطق "لسنا وحدنا المُذنبون".

عندما نُغادِرُ الشرق الأوسط، نحمِلُ أملاً بالخلاص ولو جزئيّاً من سموم الانتماء واحتمالات توظيفه لتحريك الجموع، أو لبَيع وشراء المكاسب. على هذا الأساس خرجَ كثيرون من سوريا للفَكاك من المعادلة الطائفية التي توحّشت أكثر فأكثر مع غرق البلاد في الدماء.

وبعيداً منها، كانت هناك معادلات هوياتية مشابهة في الخارج. هيئاتٌ سياسيّة معارِضة ذات طابع محاصصاتي إثني وطائفي. مؤسساتٌ ومنظمات وجمعيات "خيرّية" إسلامية تنتفع بها فئات محدّدة. وسائل إعلام مموّلة بناءً على إظهارها علمانيّة يريدها المموِّل، عبرَ جَمْع أبناء أقليات مختلفة لصنع الفسيفساء المطلوب ("فسيفساء" نعم! يالَ الأسديّة!).

ليس هذا فحسب، فبينما كان كلّ طرف إقليمي ودولي يرسل مجاهديه إما "دفاعاً عن الدم السنّي" أو "كي لا تُسبى زينب مرّتين فيما الشيعة يتفرّجون" أو "لتبقى سوريا واحة التنوّع"، كانت سفارات العالم المتقدّم و"منظّمات الإنسانية" و"حرية التعبير" تؤدي دَور الأب الحنون الذي يَحتضن الهاربين، مُنتظِراً أن يسمع شكواهم ضد إخوَتِهم من أصحاب الانتماءات الأخرى. وبذلك باتَ الحديث عن المخاطر الأمنية في سوريا حجّة ضعيفة إذا لم تُدَعَّمْ بإظهار نفسكَ كضحيّة للتمايز الديني والطائفي.

- بس والله حرّكت شعوري رئيسة نيوزيلندا بتعاطفها معنا..حتى لو كان هالشي نفاق.

- اي يا بلال انبسط! شو بدنا أحلى من هيك. إذا كنا ببلدنا أو صرنا نفرات أو لاجئين مستقرّين.. يمكن نضلّ بنظرهم بشر غير طبيعيين. نحنا بالنسبة إلهم أصحاب خلافة وأهل ذمة.. واذا بدهن يفرزونا أكتر منطلع إرهابيين وغير إرهابيين مع شويّة عبّاد نار وعجل.

مَضينا نتبادل أطراف الحديث أنا وصديقي ونتسكّعُ من دون أن نبتعد كثيراً عن المنزل كوننا مهاجرين غير شرعيين. وبمرورنا في منطقة "كيبسيلي" اقترحَ بلال أن نَدخُلَ إحدى الحدائق القريبة المعروفة باتساعها وبأشجارها الكثيفة.

- تعال ندخل.. منجيب كولايتين ومنتابع حديثنا.. شو رأيك؟

- شو انت مجنون! ما معنا هويات ولا إقامات. بهي الحديقة الشرطة رايحة جاي. بيجونا عالمتورات متل القضى المستعجل.. وإذا حاولت تهرب بتحس حالك حلزون. هدول بيدوّروا ع بياعين وشرّيبة الحشيش والمخدّرات. بس عرفونا نفرات رح يفتشونا كأنو المجرمين. تعال بقا اقنعهم انو نحنا مو حشاشين!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها