الإثنين 2019/06/24

آخر تحديث: 14:30 (بيروت)

جنجويد الدم: أتكون القيامة؟

الإثنين 2019/06/24
جنجويد الدم: أتكون القيامة؟
اعتصام وقصائد على أضواء الموبايلات في الخرطوم.. والهتاف "ثورة" و"سِلمية" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
(*) هنا شهادة طبيبة سودانية نجت بعدما أصيبت وذاقت الموت في مجزرة القيادة العامة في الخرطوم. وهي نشرتها مقاطع متسلسلة في "تويتر" في صفحتها kandaka207@، وقد جمعناها وحرّرناها، في محاولة لتقديم صورة من أرض السودان ومن أهله ومن ضحايا سُلطته:

لقد أرادو إبادتنا جميعاً حتى لا تنبت احلام أخرى بالحرية والعيش الكريم.

الرابعة والنصف صباحا بتوقيت ساحة الاعتصام... أهازيج الفرح والثبات يطلقها الثوار، مع تصاعد الاتصالات المحذرة بأن العصابة القذرة قد جمعت لكم من القوة ما يكفي للقضاء عليكم. فما زادنا ذلك إلا إيمانا وتشبثا بمطالبنا. ضحكت ملئ قلبي ورددت: كل يوم يقولو كدا م بحصل شي. وغادرت الخيمة إلى أخريات في حلقة الذكر اليومية وختمة القرآن على أرواح الشهداء السابقين والدعاء.

دعونا الله كثيرا. ثم تفرقنا لخدمة الثوار والسحور. أقمنا الصلاة وسجدنا لمالك الملك. لم يخالجنا الشك أبدا بأنها صلاتنا الأخيره. هذا المكان الذي جمعنا ما ظننا قط أنهم سينتزعوننا منه بتلك الوحشية. 

الخامسة والربع: الرجال مرابطون عند الترس والنساء لزمن الخيم وقلة يتجولون في الخارج. لا أدري أمن حسن حظي أم سوئه كنت في الخارج أجري مكالمة هاتفية، أطمئن أمي أن لاشيء سيحدث وأنني سأعود قبل الرابعة عصرا لأكمل أعمال المنزل. ما إن اغلقت هاتفي حتى بدأ عدد من السيارات بالدخول من بوابة القيادة العامة للقوات المسلحة للشعب. اكتبها "للشعب" على استحياء، فما رأينا أنها للشعب أبدا.

يبدو أنهم خدعونا بعدما تقاسموا معنا لقمة العيش والفرح وأناشيد الثورة. فعلوا ذاك بيدهم اليمنى وكانو يحملون خنجراً مسموماً بيدهم اليسرى، وينتظرون الوقت المناسب لغرسه في صدورنا واقتلاع أحلامنا واجتثاث قلوبنا. 

وامتلأ المكان بالكثير الكثير منهم. وقف الثوار على قارعة الطريق يرددون: مدنياااا مدنيااا. وظل  والغادرون يتوافدون كما الضباع التي واتتها الفرصة للانقضاض.

ربما لم يصدقني احد وقتها. هتفتُ بصوت عالٍ: خونة ومنظركم لا ىيبشر بالخير. وبعد أقل من عشر دقائق ابتدأت الأصوات تعلو لكن الثبات كان سيّد الموقف. قالوا سابقاً إن الأحرار لا يهابون الموت. لكن ما أسوأ الخيانة! 

إنهال وابل من الرصاص على الجهة الأخرى في شارع النيل. ييدو أنها كولمبيا كما يزعمون!! هرع العديد من الثوار ليعلموا ما يحدث وإذا بهم ينهالون عليهم بوابل من الرصاص والعصي وأسوأ ادوات الحرب وحشية... 

حرب غادرة في صباح ظننا أنه ستنجلي بعده الغمّة. لكن من يأمن شر عصابة قتلت النائمين وأيقظت الأحياء على أصوات الرصاص! لقد تمنيت للحظة أن يكون كابوساً مزعجاً. لكنه كان حقيقة مؤلمه. 

حين خرجت الى الساحة رأيت الكثير من الشهداء على الأرض، وشلالاً من الدم يسيل. يا إلهي! وآخرون يمنّون أنفسهم بتدخل القوات المسلحة التي زعموا أننا في حمايتها. لكنني لم أشك ولو للحظة أنها خطة مدبرة برعايتهم. لقد شارك في ذاك العمل الوحشي البغيض كل من الجنجويد المدعو حميدتي، وقوات جهاز الأمن وقوات مشتركة. لقد اجتمعوا في ليلة ليس بها شيطان وجمعوا أمرهم في ما بينهم. ذاك يعني أنهم أشد نفاقاً وتعطشاً للدماء من مصاصي الدماء أنفسهم. وتلك لم تكن وسوسة شيطان، بل كانت أنفسهم هي الشيطان الأكبر. لم يراعوا حرمة الشهر (رمضان) ولا تقاسم لقمة العيش معنا. لم يرحموا أحداً، لا أطفال ولا نساء ولا كبار. لم يكن غرضهم تفريق المعتصمين كما يزعم البعض. لقد أرادو إبادتنا حتى لا تنبت أحلام أخرى بالحرية والعيش الكريم. اقتحمو خيمة الطبيبات العلاجية. وضربوا ونكلوا بكل من سولت له نفسه ان يحلم بالحرية... تدافعو علينا كالضباع الجائعة.

جنجويد الدم يسيل لعابهم لانتهاكنا. لكن الله أحدث أمراً بعدما أقسمنا اننا هلكنا وأصبحنا في مهب الريح... لكن ثواراً أحرار تدافعوا إلى الخيمة وأخرجونا من بين أيديهم تحت الضرب والشتم بأقذر الالفاظ... واستشهدوا مدافعين عنا. والله لن أنسى تلك اللحظات ما حييت. ولن أتوقف يوماً عن الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة. ورب العزة إنهم شجعان بواسل. أحرار لم يرضوا الذل والهوان لإمراة كريمة. ركضنا متفرقين في اتجاهات عديدة. أما أنا فكاد قلبي أن يتوقف ذعراً. تشتت ذهني. ولم أعلم الى أين. الجثث في كل مكان. النار أضرمت في أغلب الخيم على مد البصر. الدماء تتدفق بغزارة. لك أن تتخيل اضطراب مشاعري. لكن رصاصة جائرة اخترقت جسدي وأيقظتني من صدمتي واندهاشي. 

كانت ضرباً من الخيال. شيء من الألم تسلل الى جسدي المتعب. وقفت مذهولة. أتكون هذه القيامة؟ أم أنها الشهادة تناديني لألتقي بربي؟ اختلطت الأجواء بالبارود والدم والأصوات.

سمعت أحدهم يقول: لا تتوقفي. وما إن تقدمت خطوات حتى فقدت توازني وسقطت على الأرض. وتذكرت أن هناك أحلاماً لم أعشها، ووطناً لم أحرره. إنها النهاية شئنا أم أبينا. جميعنا راحلون في ميقات معلوم. أغمضت عينيّ سريعاً حين أتى أحد الهمج مسرعاً نحوي. قال بصوت تعلوه نبرة الانتصار: شكلها ميتة. وللتأكد، قام بضربي بعصاة على ظهري. لقد كان خياراً صعباً. إما أن أطلق العنان لصرخاتي لأرتاح، وإما أن يقتلني الألم، على أمنية اني سأنجو من بطشهم إن أحسّوا بحقيقة موتي. هرولا بعيداً مني... وتدفقت الدموع من عينيّ وامتلأ فمي بالدم والقاذورات. حاولت النهوض لكني لم أستطع الى ذلك سبيلا. ثمة من هو قادم نحوي. إنهما ثائران كنت قد داويت جروحهما قبل أيام.

هكذا هي الحياة تعطينا الدروس بثمن باهظ... حملوني على أكتافهم الطاهرة. والله إنني في سكرة الموت وخشيت أن يحاسبني الله على ذلك... ركضوا بي في اتجاه جامعة الخرطوم. ثم لم أعلم ماذا جرى بعدها. لقد أغمي عليّ من الألم. وحين استيقظت بعد أيام علمت أن أحدهم استشهد، والآخر أكمل بي الطريق. 

لقد تعافى جسدي منذ أيام... لكن روحي لن تطيب. إن الفجيعة اكبر من النسيان.

أنا التي وقفت قوية في كل الظروف، كسروني وحطموني. لكني احتسبت الأجر عند الله. ولن أسامح أبداً كل من تورط في هذا العمل القذر من مجهولي النسب والشرف. وكل من ساعد فهو بلا شرف. أتساءل: كيف ينظرون في وجوه أبنائهم بعدما تركوا القواير تكسر أمام عيونهم ولم يحركوا ساكناً. بل والأفظع من ذلك، أن لهم إصبعاً خلف هذه الهجمة الدنيئة. دعوتي في هذه الدنيا ستكون أن أرى الرعب في وجوههم وهم يساقون إلى المشانق صاغرين أذلاء... لن يشفي غليل صدري سوى القصاص.

المجد والخلود لكل الشهداء الذين طهّروا الأرض بدمائهم الطاهرة. نحسبكم في الفردوس برفقة الحبيب المصطفى صلى الله علي وسلم.

أما أنا... فغداً تزهر براعم الأمل في قلبي وأعود الى الثورة. فالشوارع لا تخون.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها