الخميس 2019/05/23

آخر تحديث: 20:36 (بيروت)

هواوي: بلقنة العالم الرقمي

الخميس 2019/05/23
هواوي: بلقنة العالم الرقمي
ستطرح بديلا لـ"اندرويد" في 2020
increase حجم الخط decrease
صباح اليوم، هبطت أسواق الأسهم في آسيا، بعد انضمام "باناسونيك" اليابانية لقائمة الشركات التي جمدت عملها مع "هواوي". وفي اليوم السابق، أعلنت شركتي "فودافون" و"إي إي" في بريطانيا عن تعطيل المشاريع المستقبلة المشتركة مع الشركة الصينية العملاقة. 

ومن المتوقع أن تتبع عدد من الدول والشركات العالمية قرار الحظر التي فرضته الحكومة الأميركية على الشركة الأكبر في العالم في مجال البنية التحتية للاتصالات. 

فالحظر الأميركي يسرى أيضاً على كل المنتجات المصنع أجزاء منها في الولايات المتحدة، مما يعني شمول الحظر لشركات في أماكن أخرى من العالم، ستجد نفسها مضطرة لوقف تعاملاتها مع "هواوي". ومن المتوقع أن تمارس الإدارة الأميركية المزيد من الضغوط على حلفائها لمقاطعة الشركة الصينية. 

ففي الشهور القليلة الماضية، على سبيل المثال، هددت المخابرات الأميركية بوقف تعاونها مع ألمانيا في مجال المعلومات الأمنية، طالما تصرّ حكومتها على إسناد أعمال البنية التحتية لشبكات الجوال "جي 5" لـ"هواوي". وتمارس الحكومة الأميركية ضغوطاً مماثلة على كوريا الجنوبية والهند ودول الاتحاد الأوروبي. 

وبالنسبة لـ"هواوي"، فقد أعلنت إدارتها عن إطلاق نظام تشغيل خاص بها، لتعويض حرمانها من نظامي "ويندوز" و"أندرويد"، ونقلت وسائل الإعلام صباح اليوم أخباراً عن بدء الشركة في التعاقد لاستخدام بدائل لتطبيقات "غوغل" أيضاً. 

وبالطبع فإن السوق الصيني، كان مستعداً جزيئاً بالفعل، فحظر الحكومة الصينية لتطبيقات مثل "فيسبوك" و"واتسآب"، كان قد مكّن بدائلها الصينية لترسيخ وجودها في السوق المحلي الضخم. ومن المنتظر أن تتحدى "هواوي" والحكومة الصينية الحظر الأميركي في المحاكم الأميركية نفسها، إلا أن الضرر قد لحق بالفعل بالشركة وبالمنتجات الصينية بالعموم. 

فحرمان "هواوي" من التكنولوجيا الأميركية المتقدمة سيؤثر على قدرتها على المنافسة في المستقبل القريب، ومن ناحية أخرى فإن ثقة المستهلكين في الأسواق العالمية في المنتجات المصنعة في الصين اهتزت بالفعل. فحتى ولو تم رفع الحظر الأميركي قريباً، سيتردد المستهلكون في شراء المنتجات الصينية، خوفاً من حظر مستقبلي، سيؤثر على عمل أجهزتهم. 

لكن تبعات أزمة "هواوي" تتعدى مستقبل الشركة نفسها أو صناعة التكنولوجيا الصينية بوجه عام، فمداها ربما يصل إلى تغيير جذري في شكل السوق العالمي وبنية العالم الرقمي كما نعرفهما اليوم. ففيما يرى البعض الحرب التجارية الحالية بين الولايات المتحدة والصين مقدمة لحرب باردة معلنة بين القوتين التجاريتين الأكبر في العالم، فإن هناك القليل مما يمكن مقارنته بين الحرب الباردة في الماضي وبين الوضع اليوم.

فالتجارة المتبادلة بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد السوفييتي، كانت صفرية أو لا تذكر على أفضل تقدير، فيما تشكل اليوم الصين الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة.  وبينما كان الاعتماد التقني والصناعي بين قطبي الحرب الباردة في الماضي في حده الأدنى، فإن الصين تلعب دوراً جوهرياً اليوم في كافة سلاسل التوريد الصناعي والتكنولوجي للشركات الأميركية، والعكس صحيح أيضاً. 

فهندسة السوق العالمي، بشكل عمدي ليتحول إلى سلاسل عابرة للحدود، ومتشابكة، من علاقات الاعتمادية غير المتوازنة، التي تتجمع خيوطها في الولايات المتحدة، كان معني به احتواء الأسواق شبة المغلقة كالصين في المنظومة الرأسمالية، وإخضاعها سياسياً أيضاً. 

وبالفعل قاد النمو الاقتصادي الصيني قاطرة النمو العالمي، في العقدين الماضيين، لكن صعود الصين كثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، وتوقع وصولها إلى المركز الأول، وتجاوزها للولايات المتحدة في بضع عقود، أثارت المزيد من المخاوف في دوائر الحكم والأعمال في الولايات المتحدة. تمثل "هواوي" واحد من الأمثلة الأكثر وضوحاً للتهديد الصيني. فصحيح أن الشركة قفزت إلى المركز الثاني في مبيعات الهواتف الجوالة، على حساب "آبل" التي هبطت إلى المركز الثالث، ويتوقع للشركة الصينية أن تصل إلى المركز الأول العام القادم.

لكن العامل الأهم هو أن "هواوي" أضحت الأولى في مجال "التليكوم"، وتشارك بشكل رئيسي في تأسيس الجيل القادم من شبكات الجوال "جي 5" في عشرات من الدول، من ضمنها بريطانيا وألمانيا وكوريا الجنوبية، مما دفع الكثيرين للتخمين بأن البنية التحتية للاتصالات في العالم في سبيلها لأن تضحى شبكة صينية بالأساس. 

لا تسعى إدارة ترامب اليوم لتحجيم النمو الصيني وإخضاعه فقط، بل لـ"تأميم" سلاسل التوريد الأميركية الموزعة حول العالم، وتعديل بنية السوق العالمي ومنطقه الذي تم ترسيخه منذ انهيار الكتلة الشرقية، بشكل جذري. 

تحتفظ الولايات المتحدة بقدرات هائلة على إلحاق الأذى بالاقتصاد الصيني بالطبع، لكن الخطوات الأخيرة ربما تأتي بنتائج عكسية أيضاً. فكما أن الحظر على "هواوي" زعزع الثقة في المنتج الصيني، فإنه زعزع الثقة بفكرة "السوق" نفسها، والتشكيك في الفصل المفترض بين الإدارة السياسية والاقتصاد الأميركي. 

فالشركات الأميركية اليوم، تبدو أقل استقلالية من أي وقت مضي، ومدى الثقة بها يبقى معلقاً بالتحولات الطارئة في توجهات السياسة. ومن جهة أخرى، فإن الافتراض بأن الخدمات الرقمية مفتوحة ومتاحة للجميع أضحت محل شك، فكل الخدمات التي نعتمد عليها بشكل يومي، من "خرائط غوغل" والتحويل النقدي إلى البريد الإلكتروني وفايسبوك، تبدو اليوم وقفاً على قرار سياسي أميركي بحظرها في أي لحظة. 

ولا يبدو هذا بعيداً عما يشير إليه البعض بـ"بلقنة" الإنترنت. فالصينيون بدأوا العمل على شبكة إنترنت بديلة منذ وقت طويل، والروس أيضاً، تحسبا لتلك التهديدات. ومن المتوقع إذا تصاعدت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، أن يقود ذلك لتقسيم التكنولوجيا الرقمية لعوالم متباعدة ومنفصلة، وبحدود شديدة الصلابة. 

فيمكن تصور عالم تعمل به منتجات "آبل" المتراجعة في مبيعاتها على شبكة بعينها مع تطبيقات وخدمات تتركز في الولايات المتحدة، وعالم آخر تعمل به منتجات "هواوي" على شبكات "جي 5" الصينية، وتطبيقات وخدمات مبرمجة في الصين، وأن يكون عالم يعمل به "أمازون" و"وواتس آب" فقط، وعالم آخر يعمل به "علي بابا" و"وي شات" بشكل حصري، وذلك ليس تصوراً بعيداً جداً عن الواقع. 

من المرجح أن يتم تسوية الصدام التجاري بين الولايات المتحدة والصين، ببعض التنازلات من الطرف الصيني، أو بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية العام القادم، فالتمادي في الصدام يعني هدم لمنظومة السوق العالمي الحالية وسلاسل التوريد العابرة للحدود، وبأثمان لا يبدو أحداً مستعداً لدفعها في الوقت الحالي. 

ومع هذا فإن تصور العالم الرقمي كأفق واحد ومفتوح وبلا حدود ومتاح للجميع ربما تكون قد ذهبت بلا رجعة، فماركة الجوال الذي يحمله المرء ومحرك البحث الذي يستخدمه ربما قريباً ستكون رهناً بقرارات سيادية وشبكة معقدة من تحالفات القوى الدولية وصراعاتها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها