الخميس 2019/04/18

آخر تحديث: 14:06 (بيروت)

سوريا في ثورات الآخرين

الخميس 2019/04/18
سوريا في ثورات الآخرين
increase حجم الخط decrease
"سُودانيّون يرفعون عَلَم الثورة السورية في شوارع الخرطوم". يَنشرُ أحدهم صورةً تُوثّق الحَدَث، فتَعلو التهليلات والتحيّات احتفالاً بـ"الإنجاز"!
"جامعة غازي عنتاب تتبنى العَلَم ذاته ليُرفرف مع باقي الأعلام في ساحتها". تتّضحُ مَعالِم الخبر، فيَسودُ الفرح أوساط الطلبة السوريين في تركيا!

حالاتٌ كهذه أو ما يماثلها، هل لدينا الجرأة لتسميتها بـ"حُقَن البنج" المسكّنة للألم، أو "حبوب المخدّر" المُسبّبة لنشوة لا يوفّرها الوعي ولا اليقظة؟!

في المَقلب الآخر كان هناك ما يستدعي التوقّف أيضاً. فإعلام النظام عرَضَ - بطريقة مثيرة للشفقة - صُوَر رفع عَلَمِهِ في مدينة تل رفعت بريف حلب، مع أنّ الرثاثة التي وصلَ إليها كانت لتُعفيهِ من جهدٍ كهذا، ليكتفي مثلاً بحفنة ترابٍ ويَضعَ رايتهُ عليها "وفرطت يا عرب".

لا يَلزَمُ هنا قولُ أي شيءٍ إضافيّ (لن يُضيف) حول الدلائل التي يُحاول النظام تقديمها ليُثبت أنه ما زال على قيد الحياة، وليَضمَن استمرار تأثير الرموز المشتركة - ولو شكلياً - كي لا ينفرط عقد مؤيّديه معنويّاً.
ما ينبغي الالتفات لهُ أكثر هو ما يَجري في ضفّة المعارضة، حيث ستَجدُ مَن يتحدّثون عن قدسيّة عَلَم الثورة والذي استُشهد من أجله سوريوّن دفعوا أرواحهم ثمناً لقضيتهم. وهذا لا جدال فيه أبداً. لكن هل هذا هو السبب الرئيسي للاحتفال في كل مرّة يَرفعُ فيها "الآخرون" هذا العَلَم؟ بالطبع لا، فمَواقف كهذه لطالما حرَّكها هاجس التمايز عن النظام وانتزاع شرعيّة تمثيل سوريا منه، وهو مسعى محموم يعكس تجربة متكاملة.

"لدينا البدائل لِما يَخُصّ النظام، أو ما لا يَخصّه حتى! بإمكاننا إنشاء مؤسسات وإدارات وسَنمتَلك عَلَمَاً أيضاً". يَصعُب نسْبُ هذا التصوّر إلى طرف بعينه، في مرحلة ما، أعقبت بداية الاحتجاجات، لكنّ الأكيد أنه أكبرُ من مُجرّدُ فكرةٍ عفويّة، بل إنّ هناك بين المعارضين مَن يَغمزُ مُشيراً إلى دَور خارجي دَفعَ باتجاه هذا الخيار إيعازاً أو نُصحَاً. (ويبقى هذا تفصيل ناجز كوننا أصلاً مَللنا السجالات المبتذلة حول الخلفيات التي تمنح العَلَمَين الصفة الوطنيّة أوالاستعماريّة).

 بهذا المعنى إذاً ليست مكانة عَلَم الثورة/الاستقلال موضوعاً للبحث والتفنيد، بل الهدف بالدرجة الأولى طرحُ السؤال الذي ظلّ خارج النقاش طويلاً، وهو:"هل كان قرار التمايز، وأسدَنَة (نسبة للأسد) كل شيء يمَسُّهُ النظام، أمراً صائباً؟ هل خَدمَ هذا المشروع سوريا الثورة، أقلُّهُ بالنسبة لعلاقة المُعارِض ببلده؟ أم أنه كان كالدواء الذي يُكافح المرض بتدميرِ الأعضاء السليمة والمعتلّة على السواء؟
نُدرِك أن التجربة السوريّة تختلف عن تجارب التغيير الأخرى في المنطقة، كالتونسيّة والمصرية، لاعتبارات واستثناءات عديدة. لكنّ العَلَم (ذا النجمتين) مثلاً، لم يُمثّل طائفة دون سواها ليتمّ استبداله! وإلّا فكيف رَفعهُ المتظاهرون في مظاهرات حماة العام 2011؟

قد تُسَاق مبررات منطقيّة بهذا الخصوص من قبيل تَوحّش النظام وإجرامه الذي أدى إلى ردّ فعل لدى من عَبّروا عن مَطالبهم سلميّاً، ليُمهّد ذلك الطريق لاجتثاث كلّ ما نَبَتَ في عهد الأسدين.

طِبقاً لذلك سارت الأحداث، وبخُروج مساحات جغرافية عن سيطرة النظام، وظهور كيانات سياسية مناوئة له، تحوّل عَلَم الاستقلال إلى بطاقة تعريفية جامعة لكل ثائر ومعارض (حتى لمَنْ امتلك رايته الخاصة مثل "جيش الإسلام" وفصائل أخرى).

وبينما كانت الدمويّة الأسديّة تزداد، زادَ افتتانُ الثوّار بفكرة "أن تكون بديلاً في خمسة أيام أو أشهُر". هذه الغِواية التي أغرقت الجميع، ونجت منها قلّة حاولت الاستفادة من الدعم بطريقة مدروسة لا تقتصر على تشكيل حالة مُعارِضة بالشكل والخطاب والشعارات.  

ومع مرور الوقت صارت ممكنة ملاحظة الآثار السلبية لتجربة "الوصول إلى اليوم التالي قبل بزوغ الفجر"، والتي أدّت إلى شيطنة تفاصيل لا صلة لها بجوهر الحِراك، ولاحقاً التنافس الكَيديّ على فُتات مرحلة فشِلتْ في إنتاج ممثّلٍ شرعيٍّ جديد أو قديم (يكفي أن نشير إلى جلوس بشار الأسد في إيران في غياب عَلَم النظام، وغياب عَلَم الثورة والكيانات التي يمثّلها عن المحافل الدولية المهمة).

رغم ذلك كله، فلم يَكُن ليَمُرَّ بلا أثٍر، مَشهدُ تلويح سودانيٍّ أو جزائري بما يَرمُز للثورة السوريّة، والطبيعيُّ جداً أن يَبعثَ على ابتسامة قد تختبئ خلفها دمعة. فلَفتةٌ كهذه، تداوي شُعورنا كسوريين باليُتمِ والتخلّي والاغتراب.

كذلك، فإنّ تبنّي جهات غير سوريّة لرموزنا الثوريّة، ضمنَ مَحفل علمي أو ثقافي أو رياضي، هو نقطة إيجابية تنمّ عن تقدير. لكن لِنتجَنّب المُبالغات! فالأثر الفعلي لِهذه المشاهد لا يجب أن يعدو كونه مُواساةً لما حلّ بنا، أو تقديم "جوائز ترضية" لشعبٍ طريدٍ شريد.

من شَأنِ نظرة كهذه أن تجعَلَ علاقة "الثائر" بثورته، وما يَرمز لها، أقلّ رومانسيّة! هذا ما سيبدو عليه الأمر. أما في العمق فربما يُعيد "الثوار" تقييمَ بعض انفعالاتهم المجّانية، ورغبتهم في الانتقام من "فزّاعات القشّ" المحيطة بمزرعة الأسد.

كان يمكن للعَلَم الوطني الجامع أن يبقى فوق التداول والتشكيك - كباقي الأوطان المعافاة - لو لم نكُن كسورييّن (معارضين وموالين) نعيشُ مرحلة اللادولة، والتي بات فيها العَلَمان أشبه برايتين محليّتين، خصوصاً عند استعمالهما لِليِّ ذراع الطرف السوري الآخر عبر نشر "صورة"!

إذا اعتبرنا العَلَمَ نبعاً للقِيَم، فسنواتٍ من الاستنزاف المتبادل كفيلةٌ بتجفيفه. وإذا رأينا فيه ثوباً، فقد يُصابُ بالاهتراء عقب ارتدائه المتكرّر؛ نكايةً أو ادَعاءً اختصاراً لطريق المَناصب!

وفضلاً عن هذا كله، تتهافتُ حَمْلاتٌ جماهيرية بين حينٍ وآخر لتُذكّرنا بـ"الاعتزاز بعَلَم ثورتنا"، أو لتُثبِتَ أنّ "سوريا عيناها خضراوان"، فيما الواقع يُظهِرُ فقدانَ سوريا لألوانها الطبيعية، بعدما عبثَ كلُّ ذي يَدٍ بوجهها، لِغَرَض بريءٍ أو دنيء. وعليه يُصبح منَ الواقعيّة بمكان القول بأنّ "عينيها عدستان لاصقتان تتبدّلان تِبعَاً لأمزجةٍ وإرادات"! وإن قُدّر لها جَمْعُ شتات أبنائها مستقبلاً فينبغي أن تحظى بوجهٍ جديد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها