الأربعاء 2019/03/06

آخر تحديث: 19:20 (بيروت)

"داعش فكرة والفكرة لا تموت".. إلا بالاستقرار السياسي

الأربعاء 2019/03/06
"داعش فكرة والفكرة لا تموت".. إلا بالاستقرار السياسي
التساؤل مشروع عن دور وسائل الإعلام الكبرى في تصوير "داعش" تنظيماً لا يقهر
increase حجم الخط decrease
ربما تكون عبارة "داعش فكرة والفكرة لا تموت" هي الأكثر تعبيراً عن طبيعة دعاية التنظيم المتشدد الذي حكم قبل سنوات قليلة مساحات شاسعة بين سوريا والعراق، تفوق مساحة بريطانيا، نجح خلالها بإنشاء "دولة الخلافة" التي أعطته مكانة بارزة أمام بقية الجماعات الارهابية، وإرثاً أسطورياً يجب التصدي له، مع فقدان التنظيم آخر حيز جغرافي له وتحوله إلى جماعة متمردة هاربة، على غرار فلول تنظيم "القاعدة" في العراق التي انبثق منها التنظيم أصلاً قبل عقد من الزمان.


ولا يعتبر الوصف السابق مبالغة في تقدير قوة التنظيم، فإذا كانت فرضية أن الإرهاب يتمدد في الخلاء صحيحة في وقت سابق، يجب القول أن الإرهاب الداعشي اليوم ينزوي ويتلاشى في الخلاء أيضاً. وبالتالي لا يعني تراجع "داعش" ميدانياً أن التنظيم قد انتهى ومُسِح عن الوجود ببساطة، إذ ينحسر نفوذه ويتحول بسرعة من دولة إرهابية إلى مجرد جماعة إرهابية تعمل في الخفاء وتنظم نشاطها عبر زوايا الإنترنت المظلمة بشكل خاص من أجل تجنيد المقاتلين في الغرب والقيام بعمليات منفردة ضد "الكافرين"، من أجل انتظار اللحظة المناسبة لإحياء "دولة الخلافة" في سوريا والعراق بوصفهما دولتين لا تتوافر فيهما حلول سياسية قادرة على القضاء على جذور الإرهاب نفسه.

ومنذ اليوم الأول لنشأته، أدار التنظيم حملة دعائية متقنة قدم من خلالها الإرهاب بطريقة غير مسبوقة عبر فلسفة "جمال الشر" باعتماده على مواقع التواصل الاجتماعي وتصوير عملياته الدموية بحرفية مستمدة من أفلام سينمائية وبرامج تلفزيون الواقع، ساعدته على تجنيد الكثير من الأنصار، وتحوله إلى تنظيم "عالمي" جاذب للمتطرفين الحالمين بإقامة "يوتوبيا إسلامية" في المشرق.

ولعل تلك الدعاية فتحت شهية وسائل الإعلام الغربية لتداول أنبائه، إلى درجة مبالغ فيها، حسب بعض الانتقادات التي وجهت لكبرى الصحف في الولايات المتحدة وبريطانيا، خلال الأيام الماضية، لمساهمتها المفترضة في إعطاء صورة مبالغ فيها عن قوة التنظيم وقدرته على الانبعاث مجدداً رغم أنه تعرض للقصف باستمرار على مدار العامين الماضيين في سوريا والعراق، وهو الآن على مشارف خسارة آخر معاقله، وبالتالي خلافته.

والحال أنه لا يمكن لوم وسائل إعلام كبرى، مثل "نيويورك تايمز" أو "نيويوركر" و"سي إن إن" وغيرها، على افتتانها بأخبار التنظيم، ليس لأن تلك الأخبار كانت مثيرة وقادرة على حصد آلاف القراءات والمشاهدات في عصر تصارع فيه وسائل الإعلام من أجل استمراريتها في عالم متقلب، بل لأن التنظيم بحد ذاته كان حدثاً فريداً بأساليبه الدعائية غير المسبوقة من جهة، ولخطورته على الأمن الإقليمي والدولي، التي تضفي على أخباره قيمة إعلامية لا يمكن تجاهلها، ولا تعني تغطية أنباء التنظيم ودعايته، ترويجاً لذلك الفكر، لأن المتأثرين بالفكر الداعشي، في الدول الغربية، لا يتلقون مصدر معلوماتهم من الإعلام "الكافر"، بل يعيشون في عالم مختلف من المعلومات والعزلة، وهو ما أكدته قضية "عرائس داعش" الأخيرة بوضوح.

المخيف في الأمر هنا، أن خلافة "داعش" لم تكن فقاعة إعلامية، بل كانت أمراً واقعاً سقطت به الحدود الرسمية بين سوريا والعراق بعد حوالي 100 سنة على إنشائها وترسيمها باتفاقية "سايكس بيكو"، واشتعلت من ورائه حروب وقتل وتعذب بسببه كثيرون، وساهم وجوده المروع في تحسين صورة الأنظمة الدكتاتورية التي تعتبر بلا شك أحد أهم أسباب تشكله. كما أن المظالم السياسية والاجتماعية التي أدت إلى خلق بيئة خصبة للتنظيم كي ينمو ويزدهر في سوريا ما زالت موجودة، ولم يتم التوصل الى حل سياسي حقيقي ينهي هذه الحلقة المفرغة التي يمكن تلمسها في العراق، مع التحولات التي طرأت لتنظيم "القاعدة" منذ العام 2003 والتي انبثق منها "داعش" قبل سنوات.

رغم ذلك، يبقى التساؤل عن دور وسائل الإعلام الكبرى في تصوير "داعش" في هيئة التنظيم الذي لا يقهر، مشروعاً، وبحسب الانتقادات التي يكررها باحثون مؤخراً، مثل خبير علم الجريمة بجامعة كينت البريطانية، سايمون كوتي، فإن "الكثيرين من المراقبين يترددون في الاعتراف بحجم هزيمة داعش، وهم مقتنعون أنه سيتحول إلى شيء أكثر إرهاباً، لدرجة أن البعض لا يستخدمون كلمة الهزيمة مطلقاً، ويبدو وكأنهم من دعاة داعش الذين يحولون كل خسارة داعشية إلى مجرد كبوة مؤقتة في طريق انتصارهم المحتوم، ويركزون على حقيقة أن التنظيم يمتلك معاقل في أماكن أخرى، مثل أفغانستان، ويرون أنه سيعود مستقبلاً مسترداً عافيته".

ويبدو الجدل السابق نوعاً من الترف الفكري، خصوصاً أنه ينطلق من فرضية واهية تفيد بأن هنالك فرقاً في تعامل المنظومتين السياسية والإعلامية في الغرب مع قوة التنظيم، رغم أن الخطاب الدبلوماسي الغربي يحذر في العموم من إمكانية انبثاق التنظيم.

ففي العراق على سبيل المثال، حذرت الأمم المتحدة العام الماضي من أن خمس مناطق حررت حديثاً من "داعش" تحتاج بشكل عاجل إلى الاستقرار، وإلا فإن موجة التطرف العنيف قد تظهر مرة أخرى، ما يهدد بتبديد المكاسب العسكرية التي تحققت ضد "داعش"، وهو ما كررته وزارة الخارجية الأميركية حينها.

ويركز الخطاب الدبلوماسي الغربي على فكرة تحقيق الاستقرار في المناطق المحررة من "داعش" من أجل التصدي لدعايته التي تستهدف السكان المحليين من أجل خلق شرعية للجهاديين هناك، لأن ذلك الاستقرار ضمن دول تحترم القانون ومبادئ الديموقراطية والمواطنة، هو الحل الوحيد لمكافحة تحول "داعش" إلى خرافة أو أسطورة شعبية متناقلة عبر الدعاية الداعشية نفسها، وليس عبر الإعلام العالمي، علماً أن تلك الحالة هي أمر سعى إليه التنظيم بشدة منذ اليوم الأول لظهوره، تمهيداً لليوم الذي يأتي ويهزم فيه ويتقهقر نحو البادية والأرياف التي خرج منها، راسماً صورة المدافع عن المظلومين السنة ضد "المتوحشين الشيعة" و"الأجانب الصليبيين"، مستفيداً من مظلوميات تاريخية تتكرر وتزداد كشعاره تماماً "باقية وتتمدد".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها